التّفسير
الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء:
بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة.
تقول الآية الكريمة: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ).
مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى، لأنّنا كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر إنسجاماً مع الواقع.
فليس فيه تناقض، أو كذب أو خرافة، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات، وقوانينه تتساوق مع إحتياجات البشر، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.
هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم، تمّت الإستفادة هنا من كلمة "الحقّ"، في حال أنّه في آيات اُخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ "النور" و "البرهان" و "الفرقان" و "الذكر" و "الموعظة" و "الهدى"، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات.
يقول الراغب في (مفرداته): أصل الحقّ المطابقة والموافقة، والحقّ يقال على أوجه:
الأوّل: يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله: (فذلكم الله ربّكم الحقّ).(1)
الثّاني: يقال للشيء الذي وُجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال فِعلُ الله تعالى كلّه حقّ، قال تعالى: (ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ)،(2) أي الشمس والقمر وغير ذلك.
الثّالث: في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لمّا اختلفوا فيه من الحقّ).(3)
والرّابع: يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقاً لما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت المقرّر، كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ(4).
وبناءً عليه، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ.
جملة (مصدّقاً لما بين يديه) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حامله (ص).
جملة (إنّ الله بعباده لخبير بصير) توضّح علّة حقّانية القرآن وإنسجامه مع الواقع والحاجات البشرية، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم.
لكن ما هو الفرق بين "الخبير" و "البصير"؟
قال البعض: "الخبير" العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبُعد الروحي في الإنسان، و"البصير" العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.
وقال آخرون: "الخبير" إشارة إلى أصل خلق الإنسان، و"البصير" إشارة إلى أعماله وأفعاله.
وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعداً.
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ جنسه ﴿هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ حال مؤكدة أي أحقه مصدقا ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما تقدمه من الكتب ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ عالم بالبواطن والظواهر.