وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص، فتقول الآية الكريمة: (وهم يصطرخون فيها ربّنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنّا نعمل)(2).
نعم، فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة، يغرقون في ندم عميق، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.
التعبير بـ "صالحاً" بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضاً يمكن أن يكون سبباً في نجاتهم.
التعبير بالفعل المضارع "نعمل" أيضاً له ذلك الإشعاع، ويؤيّد هذا المعنى، وهو تأكيد أيضاً على "أنّنا كنّا مستغرقين في الأعمال الطالحة".
قال بعض المفسّرين: إنّ الربط بين وصف "صالحاً" واللاحق لها "كنّا نعمل" يثير نكتة لطيفة، وهي أنّ المعنى هو "إنّنا كنّا نعمل الأعمال التي عملنا بناءً على تزيين هوى النفس والشيطان، وكنّا نتوهّم أنّها أعمال صالحة، والآن قرّرنا أن نعود ونعمل أعمالا صالحة في حقيقتها غير التي ارتكبناها".
نعم فالمذنب في بادىء الأمر- وطبق قانون الفطرة السليمة- يشعر ويشخص قباحة أعماله، ولكنّه قليلا قليلا يتطبّع على ذلك فتقل في نظره قباحة العمل، ويتوغّل أبعد من ذلك فيرى القبيح جميلا، كما يقول القرآن الكريم: (زيّن لهم سوء أعمالهم).(3)
وفي مكان آخر يقول تعالى: (وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً).(4)
على كلّ حال، ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه اُولئك من الله سبحانه وتعالى، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول: (أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير) فإذا لم تنتفعوا بكلّ ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كلّ الفرص الكافية المتاحة (فذوقوا فما للظالمين من نصير).
هذه الآية تصرّح: لم يكن ينقصكم شيء، لأنّ الفرصة اُتيحت لكم بما يكفي، وقد جاءتكم نُذر الله بالقدر الكافي، وبتحقّق هذين الركنين يحصل الإنتباه والنجاة، وعليه فليس لكم أي عذر، فلو لم تكن لكم المهلة كافية لكان لكم العذر، ولو كانت لكم مهلة كافية ولم يأتكم نذير ومرشد ومعلّم فكذلك لكم العذر، ولكن بوجود ذينك الركنين فما هو العذر؟!
"نذير" عادةً ترد في الآيات القرآنية للإشارة إلى وجود الأنبياء، وبالأخصّ نبي الإسلام (ص) ولكن بعض المفسّرين ذكروا لهذه الكلمة هنا معنى أوسع، بحيث تشمل الأنبياء والكتب السماوية والحوادث الداعية إلى الإنتباه كموت الأصدقاء والأقرباء، والشيخوخة والعجز، وكما يقول الشاعر:
رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير(5)
من الجدير بالملاحظة أيضاً أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ هناك حدّاً من العمر يعتبر إنذاراً وتذكيراً للإنسان، وذلك بتعبيرات مختلفة، فمثلا في حديث عن ابن عبّاس مرفوعاً عن النّبي (ص) أنّه قال: "من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه"(6).
وعن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: "العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة"(7).
وعن الرّسول (ص) أيضاً أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستّين؟ وهو العمر الذي قال الله: (أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر)(8).
ولكن ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: إنّ الآية "توبيخ لابن ثماني عشرة سنة"(9).
طبعاً، من الممكن أن تكون الرواية الأخيرة إشارة إلى الحدّ الأقل، والروايات السابقة إشارة إلى الحدّ الأعلى، وعليه فلا منافاة بينها، وحتّى أنّه يمكن إنطباقها على سنين اُخرى أيضاً- حسب التفاوت لدى الأفراد- وعلى كلّ حال فإنّ الآية تبقى محتفظة بسعة مفهومها.
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ يستغيثون بصراخ أي صياح قائلين: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ نحسبه صالحا فقد تحقق الآن لنا خلافه فيقال لهم توبيخا ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا﴾ الهم للدين والدنيا ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ﴾ عمرا ﴿يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ روي أنها ستون وقيل أربعون وقيل ثماني عشر ﴿وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ﴾ الرسول أو الكتاب أو الشيب أو العقل أو موت الأهل ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ يدفع العذاب عنهم.