لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الإستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (استكباراً في الأرض)(3) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (ومكر السيىء)(4). ولكن (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله). جملة "لا يحيق": الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها "لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط" إشارة إلى أنّ الإحتيال قد يؤدّي- مؤقتاً- إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله، وسيندمون حتماً أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة. هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النّبي (ص)، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم وإستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ. ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين)(5). هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم، والقرآن الكريم أشار مراراً إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة. ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا). فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوماً على أعمال معيّنة، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم، وكلّ ما يفعله بناءً على حكمة وعدل تاميين؟! فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك إطّلاعاً أو معرفة محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة، أو يكون الإنسان عالماً، إلاّ أنّه لا يتصرّف طبقاً للحكمة والعدالة، بل طبقاً لميول خاصّة في نفسه، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الاُمور، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبداً. وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (62) من سورة الأحزاب، وبالجملة فإنّ في هذا العالم- عالم التكوين التشريع- ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر، عبّر عنها القرآن الكريم "السنن الإلهيّة" والتي لا سبيل إلى تغيّرها. هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغداً. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن، ومنها أيضاً نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغداً(6). الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن "عدم تبديل" السنن الإلهيّة، الأحزاب- 62، وفي البعض الآخر الحديث عن "عدم تحويل" السنن الإلهية، سورة الإسراء- 77، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معاً. فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد، بحيث أنّهما ذكرتا معاً للتأكيد، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟ بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل) الشيء، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني، ولكن (تحويل) الشيء، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه. وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الإستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اُخرى. ولا أن يوقع عقاباً أقلّ شدّة على مجموعة دون اُخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل(7). آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف "سنّة" إلى لفظ الجلالة "الله" وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف "سنّة" إلى "الأوّلين" ويظهر في باديء الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّه في الحالة الاُولى اُضيفت "سنّة" إلى "الفاعل"، وفي الحالة الثانية اُضيفت "سنّة" إلى "المفعول به". ففي الحالة الاُولى تعبير عن مجري السنّة، وفي الثانية عمّن اُجريت عليه السنّة. ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ مفعول له أو بدل من نفورا ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ مصدر أضيف إلى صفة معموله أي وإن مكروا المكر السيىء ﴿وَلَا يَحِيقُ﴾ يحيط ﴿الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ وهو الماكر ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ﴾ ينتظرون ﴿إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم ﴿فلن فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ فلا يبدل بالعذاب غيره ولا يحول إلى غير مستحقه.