لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير لولا لطف الله ورحمته! الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهيّة بالبشر، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإنّ البدء والختام متّفقان ومنسجمان في توضيح رحمة الله. زيادة على ذلك، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين الكفّار بمصير الأقوام الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكّة؟! وتجيب على السؤال قائلة: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في مصيرهم وتهذيب أخلاقهم (ما ترك على ظهرها من دابّة). نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق، وزلازل، وطوفانات، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. (ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس. هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصّة، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم (فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(1) فانّه تعالى يرى أعمالهم ومطّلع على نيّاتهم. هنا يطرح سؤالان، جوابهما يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه: الأوّل: هل أنّ هذا الحكم العام (ما ترك على ظهرها من دابة) يشمل حتّى الأنبياء والأولياء والصالحين أيضاً؟ الجواب واضح، لأنّ المعنيّ بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم، والرسل والأئمّة والصلحاء الذين هم أقلّية خارجون عن ذلك الحكم، والخلاصة أنّ كلّ حكم له إستثناءات، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماماً مثلما نقول: إنّ أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون، والمقصود الأكثرية منهم، في الآية (41) من سورة الروم نقرأ (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). فبديهي أنّ الفساد ليس نتيجة لأعمال جميع البشر، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم. وكذلك فإنّ الآية (32) من نفس هذه السورة، التي قسّمت الناس إلى ثلاث مجموعات "ظالم" و "مقتصد" و "سابق بالخيرات" شاهد آخر على هذا المعنى. وعليه فإنّ الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقاً. الثاني: هل أنّ التعبير بـ "دابّة" في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر، أي أنّ تلك الدواب أيضاً سوف تتعرّض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟! الجواب على هذا السؤال يتّضح إذا علمنا أنّ أصل فلسفة وجود الدواب هو تسخيرها لمنفعة الإنسان، فإذا إنعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من داع لوجود تلك الدواب(2). وأخيراً نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرّسول الأكرم (ص)حيث يقول: "سبق العلم، وجفّ القلم، ومضى القضاء، وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى، وبالشقاء لمن كذّب وكفر، وبالولاية من الله عزّوجلّ للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين" ثمّْ قال: "إنّ الله عزّوجلّ يقول: ياابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي، وأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بذنبك منّي، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به، والشرّ منك إليك بما جنيت جزاء، وبكثير من تسلّطي لك إنطويت على طاعتي، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي، تلي الحمد والحجّة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرّتك، وهو قوله عزّوجلّ: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة) لم اُكلّفك فوق طاقتك، ولم اُحمّلك من الأمانة إلاّ ما قرّرت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي، ثمّ قال عزّوجلّ: (ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(3). إلهي، إجعلنا ممّن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها، فيرجعون إلى وجهك الكريم، ونوّر ما مضى من أيّامنا بنور حسناتك ورضاك. إلهي، إذا لم تشملنا برحمتك فإنّ جهنّم التي أشعلناها بأعمالنا السيّئة ستمتدّ بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها، وإن لم تضيء قلوبنا بنور غفرانك فإنّ قلوبنا ستصبح مرتعاً للشيطان اللعين. إلهي، أعذنا من كلّ شرك، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في أعماق قلوبنا وزوّدنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا، إنّك مجيب الدعاء. آمين ياربّ العالمين إنتهت سورة فاطر ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا﴾ من الذنوب ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا﴾ ظهر الأرض ﴿مِن دَابَّةٍ﴾ نسمة تدب عليها بشؤمهم ﴿وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو يوم القيامة ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ فيجازيهم بأعمالهم.