لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة، فلو سطعت الشمس آلاف السنين على أرض سبخة، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة، وهبّت عليها نسائم الربيع على الدوام، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن، لأنّ قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل. بحوث 1- فقدان وسائل المعرفة يحتاج الإنسان للتعرّف على العالم الخارجي إلى الإستفادة من وسائل وأدوات تسمّى "وسائل المعرفة". قسم منها "باطنية" والقسم الآخر "ظاهرية". العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية، والحواس الظاهرية كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية. وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الإشتداد شيئاً فشيئاً إذا استُفيد منها على وجه صحيح حتّى تتمكّن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق. أمّا إذا استُغلّت بطريقة خاطئة، أو لم يتمّ الإستفادة منها أصلا، فإنّها تضطرب بشكل كلّي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب، تماماً كالمرآة الصافية إذا غطّاها غبار غليظ أو أنّها تخرّشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها، أو أنّها تعكس ما لا ينطبق على الواقع. هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من الإنسان، ولهذا السبب فإنّ المقصّر الأصلي هو الإنسان، وهو الذي جنى على نفسه. الآيات أعلاه تشبيه معبّر عن هذه المسألة المهمّة والمصيرية، فهي تشبه المستكبرين والمتعصّبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من جهة، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم وأياديهم. وباُولئك المحاصرين بين سدّين منيعين لا يمكن عبورهما. ومن جهة اُخرى فإنّ أعينهم مغلقة ولا تبصر. الغلّ والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة، والسدّان العظيمان أيضاً وحدهما كافيان لمنعهم من الفعّالية، إنعدام البصر وحده أيضاً عامل مستقل. هذان السدّان عاليان ومتقاربان إلى حدّ أنّهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة على الإبصار، كما أنّهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كرّرنا القول بأنّ الإنسان تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة، أمّا حينما يبلغ تلك المرحلة، فلو إجتمع جميع الأنبياء والأولياء (ع) أيضاً وقرأوا له جميع الكتب السماوية، فلن يؤثّر ذلك فيه. وذلك ما تمّ التأكيد عليه، سواء في آيات القرآن أو الروايات، وهو أنّ الإنسان إذا زلّت قدمه أو إرتكب ذنباً فعليه أو يتوب فوراً ويتوجّه إلى الله، وأن يبتعد عن التسويف والتأخير، والإصرار والتكرار، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة عليه أن ينظف صدأ القلب، ويدمّر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى سدود كبيرة وعظيمة، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي يتمكّن من الإبصار. 2- السدود من الأمام والخلف طرح بعض المفسّرين هذا السؤال، وهو أنّ المانع الأساسي من إستمرار الحركة هو السدّ الذي يكون أمام الإنسان، فما معنى السدّ من الخلف؟ وأجاب بعضهم قائلا: "إنّ الإنسان له هداية فطرية ووجدانية- وهداية نظرية إستدلالية- فكأنّه تعالى يقول: "جعلنا من بين أيديهم سدّاً" أي: حرمناهم من سلوك سبيل الهداية النظرية "وجعلنا من خلفهم سدّاً" أي: منعناهم من العودة إلى الهداية الفطرية(12). وقال البعض الآخر: انّ السدّ من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة، وأمّا السدّ من خلفهم فهو الذي يصدّهم عن تحصيل السعادة الدنيوية(13). كذلك يحتمل التّفسير التالي أيضاً، وهو إنّ السالك إذا انسدّ الطريق الذي قدّامه فقد فاته المقصد ولكنّه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد، فإذا أغلق الطريق من خلفه ومن قدّامه فسوف يكون محروماً من الوصول إلى المقصد حتماً. وفي الثنايا يتّضح الجواب أيضاً على السؤال التالي: وهو لماذا لم يذكر السدود عن اليمين والشمال؟ ذلك لأنّ الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير يميناً أو شمالا، إضافةً إلى أنّ السدّ عادةً يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن والأيسر مغلقين، والممر الوحيد هو مكان السدّ الذي ينغلق هو الآخر بوجوده، فيكون الإنسان في حصار كامل عمليّاً. 3- الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي هناك طريقان معروفان لمعرفة الله، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم الإنسان وروحه، وتلك "الآيات الأنفسية"، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب، والجبال والبحار. وتلك تسمّى "الآيات الآفاقية" وقد أشار القرآن إليهما في الآية (53) من سورة فصّلت (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ). وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء. في الآيات الماضية وفي جملة (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) إشارة إلى المعنى الأوّل، لأنّ الأغلال ترفع رؤوسهم إلى الأعلى بحيث أنّهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم، وكذلك فإنّ السدود أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم، بحيث أنّهم مهما نظروا فلن يبصروا غير السدود، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية. ﴿وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فسر في البقرة.