لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة، تقول الآية الكريمة: (إنّا نحن نحيي الموتى). الإستناد إلى لفظة "نحن" إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط، بل (ونكتب ما قدّموا وآثارهم) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وتحفظها إلى يوم الحساب. جملة "ما قدّموا" إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أمّا التعبير "وآثارهم" فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس). كذلك يحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ "ما قدّموا" إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية، و "آثارهم" إشارة إلى الأعمال التي تصبح سنناً وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين. ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين). أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى "إمام مبين" هنا هو "اللوح المحفوظ" ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم. والتعبير بـ "إمام" ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائداً وإماماً لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب، أو لكونه معياراً لتقييم الأعمال الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها. الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن "التوراة" حيث يقول سبحانه وتعالى: (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة). وإطلاق كلمة "إمام" في هذه الآية على "التوراة" يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلام (ص)، ففي كلّ هذه الاُمور يمكن للتوراة أن تكون قائداً وإماماً للخلق، وبناءً على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد إستعمال. مسألتان 1- أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس يُستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب. أوّلها: "صحيفة الأعمال الشخصية" التي تحصي جميع أعمال الفرد على مدى عمره (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).(3) هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين (يقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها).(4) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم- الحاقّة 19 و25. ثانياً: "صحيفة أعمال الاُمّة" والتي تبيّن الخطوط الإجتماعية لحياتها، كما يقول القرآن الكريم: (كلّ اُمّة تدعى إلى كتابها).(5) وثالثها: "اللوح المحفوظ" وهو الكتاب الجامع، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط، بل لجميع الحوادث العالمية، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب. 2- كلّ شيء أحصيناه ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّ رسول الله (ص) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: "ائتوا بحطب، فقالوا: يارسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (ص). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين"(6). هذا الحديث المؤثّر، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد ناراً عظيمة اللهب. في حديث آخر ورد أنّ "بني سلمة" كانوا في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية (إنّا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم)فقال رسول الله (ص): "إنّ آثاركم تكتب"- أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد، وسوف تثابون عليها- فلم ينتقلوا(7). اتّضح إذاً أنّ مفهوم الآية واسع وشامل، وله في كلّ من تلك الاُمور التي ذكرناها مصداق. وقد يبدو عدم إنسجام ما ذكرنا مع ما ورد من "أهل البيت" (ع) حول تفسير "إمام مبين" بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقر (ع) عن آبائه (ع): "لمّا اُنزلت هذه الآية على رسول الله (ص) (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يارسول الله، هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، قال: فأقبل أمير المؤمنين علي (ع) فقال رسول الله (ص): هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء"(8). وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: "أنا والله الإمام المبين، أُبيّن الحقّ من الباطل، ورثته من رسول الله (ص)"(9). فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال "الآلوسي"، قد إستاء كثيراً من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والإطلاع وعدم التمكّن من التّفسير، إلاّ أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير "الإمام المبين" بـ "اللوح المحفوظ". بلحاظ أنّ قلب الرّسول(ص) بالمقام الأوّل، ثمّ يليه قلب وليّه، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ. وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ، وبذا يصبحان نموذجاً من اللوح المحفوظ، وعليه فإنّ إطلاق "الإمام المبين" عليهما ليس بالأمر العجيب، لأنّهما فرع لذلك الأصل، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل- كما نعلم- يعتبر عالماً صغيراً ينطوي على خلاصة العالم الكبير، وطبقاً للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام. أتزعم أنّك جرم صغير؟ وفيك انطوى العالم الأكبر والعجيب أنّ "الآلوسي" لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من "الإمام المبين" هو "اللوح المحفوظ" فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه "دقّق النظر!!". ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ للبعث ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ من الطاعات والمعاصي ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ ما اقتدي بهم فيه بعدهم من حسنة وسيئة ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ هو علي (عليه السلام) أو اللوح المحفوظ.