لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردّي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون). وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!!، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير، وصاروا إلى نفس المصير. ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا- بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات- لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضاً لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا: لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟ التعبير بـ "عباد" إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات. بحوث 1- قصّة رسل أنطاكية (أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت- على قول البعض- بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة. تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب، وستّين كيلومتراً عن الإسكندرية. فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم. احتّلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاُولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفاً على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم. (أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (ع) منها دعوته، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيح (ع)- بولس وبرنابا ـ(13) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية، وبذا إنتشرت المسيحية هناك، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(14). "الطبرسي"- أعلى الله مقامه- في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه. فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إنّ لي إبناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله، فذهب بهما فمسحا إبنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى. وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك. قال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما. وروي أنّ عيسى (ع) بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فلمّا كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكّراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك. فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا. قالا: الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له. قال: وما آيتكما. قالا: ما تتمنّاه. فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارتا مقلتين يُبصر بهما، فتعجب الملك. فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً؟ فقال الملك: ليس لي عنك سرّ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع. ثمّ قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كلّ شيء. فقال الملك: إنّ هاهنا ميّتاً مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه- وكان غائباً- فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربّهما علانيةً، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّاً، فقام الميّت وقال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا اُحذّركم ممّا أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجّب الملك. فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون. ونقل "العياشي" في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادق (ع)مع بعض التفاوت(15). ولكن بمطالعة الآيات السابقة، يبدو من المستبعد أنّ أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا، لأنّ القرآن الكريم يقول: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون). ويمكن أن يكون هناك إشتباه في الرواية من جهة الراوي. ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ التعبير بـ "المرسلون" في الآيات أعلاه يدلّل على أنّهما أنبياء مرسلون من الله تعالى، علاوةً على أنّ القرآن الكريم يقول: بأنّ أهالي تلك المدينة (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء)، ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادةً فيما يخصّ الأنبياء، وإن كان قد قيل بأنّ رسل الأنبياء هم رسل الله، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيداً. 2- ما نتعلّمه من هذه القصّة نتعلّم من القصّة التي عرضتها الآيات السابقة اُموراً عديدة منها: أ- أنّ المؤمنين لا يستوحشون أبداً من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى منفردين كما هو حال المؤمن "حبيب النجّار" الذي لم ترهبه كثرة المشركين في مدينته. يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله"(16). ب- المؤمن عاشق لهداية الناس، ويتألّم لضلالهم، وحتّى بعد شهادته يتمنّى أن يرى الآخرون مقامه ليكون سبباً في إيمانهم! ج- محتوى دعوة الأنبياء بحدّ ذاتها دليل على هدايتهم وحقّانيتهم (وهم مهتدون). د- الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقّب للأجر لكي تكون مؤثّرة. هـ- تارةً يكون الضلال مكشوفاً وواضحاً، أي أنّه ضلال مبين، وعبادة الأوثان تعدّ مصداقاً واضحاً لـ "الضلال المبين". و- أهل الحقّ يستندون إلى الواقعيات، والضالّون يستندون إلى أوهام وظنون. ز- إذا كان هناك شؤم ونكبات فإنّ سببها نفس الإنسان وأعماله. ح- الإسراف سبب لكثير من الإنحرافات والنكبات. ط- وظيفة الأنبياء وأتباعهم "البلاغ المبين" والدعوة العلنية، سواء إستجاب الناس أو لم يستجيبوا. ي- التجمّع والكثرة من العوامل المهمّة للنصرة والعزّة والقوّة (وعزّزناهما بثالث). ك- إنّ الله لا يحتاج لتدمير أئمّة التمرّد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض والسماء، بل تكفي الإشارة. ل- لا فاصلة بين الشهادة والجنّة، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان الحور العين(17). م- إنّ الله يطهّر الإنسان من الذنوب أوّلا ثمّ يقربه إلى جوار رحمته (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرّمين). ن- يجب على مريد الحقّ أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء، لأنّ ذلك ديدنهم على مدى الدهور (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون). وأي حسرة أكبر وأشدّ من أن يغلق الإنسان- لمجرّد تعصّبه وغروره- عينيه، فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة. س- كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس (وجاء من أقصى المدينة رجل ...). ع- وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلّوا من طريق الحقّ، ولم يكن لسعيهم وإجتهادهم حدّ. (يسعى). ف- يجب تعلّم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثّرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين، وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك. 3- ثواب وعقاب البرزخ ورد في الآيات الماضية أنّ (المؤمن حبيب النجّار) بعد شهادته دخل الجنّة وتمنّى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلّم أنّ هذه الآيات- كما هو الحال في الآيات الاُخرى التي تتحدّث عن الشهداء- ليست مربوطة بالجنّة المقصودة بعد يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر. من هنا يتّضح أنّ وراءنا جنّة وجحيماً في البرزخ أيضاً، يتنعّم فيها الشهداء ويحترق فيها الطغاة من أمثال "آل فرعون" ومع الإلتفات إلى هذا المعنى، تنحلّ كثير من الإشكالات فيما يخصّ الجنّة والنار، من أمثال ما ورد في روايات الإسراء والمعراج وأمثالها. 4- قادة الاُمم نقل في تفسير الثعلبي عن الرّسول الأكرم (ص) "سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصدّيقون وعلي أفضلهم"(18). كما ورد هذا المعنى تقريباً في رواية عن رسول الله (ص) أوردها صاحب تفسير "الدرّ المنثور" عن الرّسول (ص) أنّه قال: "الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الذي قال: ياقوم اتّبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم"(19). ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ احضري فهذا وقتك ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾ بيان أنهم أحقاء بأن تتحسر عليهم الملائكة والثقلان بسبب استهزائهم الموجب لإهلاكهم.