الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث، تتحدّث عن تسبيح الله وتنزيهه، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول: (سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون)(3).
نعم، فالله الذي خلق كلّ هذه الأزواج في هذا العالم الواسع، لا حدّ لعلمه وقدرته ومنزّه عن كلّ نقص وعيب، لذا فلا شريك ولا شبيه له، وإن عدّ بعض الناس الحجر والخشب الجامد الميّت نظائر له، فإنّ تلك النسبة الباطلة لا تنقص من مقام كبريائه شيئاً.
بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.
أمّا ما هو المقصود من "أزواج" هنا، فللمفسّرين أقوال كثيرة.
ما هو مسلّم به أنّ "أزواج" جمع "زوج" عادةً، تطلق على الذكر والاُنثى من أي نوع، سواء كان ذلك في عالم الحيوان أو في غيره، ثمّ شمل المعنى كلّ إثنين يقترنان مع بعضهما البعض أو حتّى إذا تضادّا، حتّى الغرفتين المتشابهتين في البيت يقال لهما زوج، ودفّتي الباب وهكذا، فالمتصوّر أنّ لكلّ مخلوق زوج.
على كلّ حال فليس من المستبعد أن يكون المعنى المقصود هنا هو المعنى الخاصّ، أي جنس المذكر والمؤنث، والقرآن الكريم يُخبر من خلال هذه الآية عن وجود ظاهرة الزوجية في جميع عوالم النبات والإنسان والموجودات الاُخرى التي لم يطّلع عليها البشر.
هذه الموجودات يمكن أن تكون النباتات التي لم تحدّد سعة دائرة الزوجية فيها حتّى الآن. أو إشارة إلى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار، وهذه الحقيقة لم تعرف سابقاً، وما عرف منها في العصر الحاضر إلاّ جانب يسير.
أو أنّها إشارة إلى موجودات اُخرى تقطن كواكب اُخرى في هذا الكون المترامي. أو موجودات حيّة لا ترى بالعين المجرّدة، وإن كان العلماء في وقتنا الحاضر يشيرون إلى أنّ ليس في تلك الموجودات الحيّة ذكر واُنثى، ولكن عالم هذه الموجودات الحيّة غامض ومعقّد إلى درجة أنّ العلم البشري حتّى الآن لم يلج كلّ غوامضها ومكنوناتها.
وحتّى وجود الزوجية في عالم النبات- كما قلنا- لم يكن معلوماً منها في عصر نزول القرآن سوى بعض الحالات المحدودة كما في النخل وأمثاله، وقد كشف القرآن الكريم الستار عن ذلك كلّه، وقد ثبت أخيراً من البحوث العلمية أنّ الزوجية قضيّة عامّة وشاملة في عالم النبات.
كذلك احتمل أيضاً أن تكون قضيّة الزوجية هنا إشارة إلى وجود البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة في الذرّة التي تعتبر الأساس في تشكيل كلّ الموجودات في عالم المادّة ولم يكن الإنسان مطّلعاً على هذه الحقيقة والزوجية قبل تفجير الذرّة، ولكن بعد ذلك ثبت علمياً وجود الأزواج السالبة والموجبة في نواة الذرّة والالكترونات التي تدور حولها.
البعض اعتبر "الزوجية" هنا إشارة إلى تركيب الأشياء من "مادّة" و "صورة" أو "جوهر" و "عرض"، والبعض الآخر قالوا: إنّها كناية عن "الأصناف والأنواع المختلفة" للنباتات والبشر والحيوانات وسائر موجودات العالم.
ولكن الواضح أنّه حينما نستطيع حمل هذه الألفاظ على المعنى الحقيقي (جنس المذكّر والمؤنّث) ولا نجد قرينة على خلاف ذلك، فلا داعي لأن نبحث بعد ذلك عن المعاني الكنائية، وكما لاحظنا فإنّ هناك عدّة تفاسير جميلة للزوجية بالمعنى الحقيقي لها.
وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتّى الآن.
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ﴾ الأصناف ﴿كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ﴾ من أزواج النبات ﴿وَمِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ من الذكور والإناث ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ من أزواج لم يروها ولم يسمعوا بها