ثمّ يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمّة لعنادهم وإعراضهم فيقول: (وإذا قيل لهم أنفقوا ممّا رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلاّ في ضلال مبين).
ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسّك به الأنانيون والبخلاء في كلّ عصر وزمان ويقولون: إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وإبتلاء، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الإمتحان الغنى والفقر، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه، أم لا؟
ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود، أو المشركين في مكّة، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوماً عامّاً يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور، وهي قولهم: إذا كان الله هو الرازق إذاً لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلماذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئاً، ويوجب نظام التشريع شيئاً غيره.
فنظام التكوين- بإراة الله- أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر، وأن يعطى البشر حريّة إنتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.
ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والإستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق، فبالزكاة تطهر النفوس، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب، ويتحقّق التكافؤ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.
وذلك تماماً كما يقول شخص: لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(3)؟
جملة (قال الذين كفروا) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!
ولسان حال المؤمنين بقولهم: (أنفقوا ممّا رزقكم الله) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام، ويا لهم من بخلاء اُولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!
أمّا جملة: (إن أنتم إلاّ في ضلال مبين) فلتفسيرها توجد إحتمالات ثلاثة:
الأوّل: أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.
الثاني: أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.
الثالث: أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.
ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب، لأنّه يتّصل مباشرةً بحديث الكفّار السابق، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ﴾ من ماله على خلقه ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مشركو قريش وقد استطعمهم فقراء المؤمنين أو منكرو الصانع ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ استهزاء بهم ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ في زعمكم ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ إذ أمرتمونا بما ينافي معتقدكم.