سبب النّزول
نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنّه قال: "جاء أُبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظماً بالياً من حائط ففتّه ثمّ قال: إذا كنّا عظاماً ورفاتاً إنّا لمبعوثون خلقاً؟" فأنزل الله: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم).
التّفسير
قلنا أنّ البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوّة في سورة (يس) التي هي قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة، وإختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد.
في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمّل والتفكّر، فتقول: (أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(1). يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكّد أوّلا على مخاطبة الإنسان، أيّاً كان وأيّ إعتقاد كان يعتقد، وعلى أيّ مستوى كان من العلم، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.
ثمّ تتحدّث عن "النطفة" والتي هي لغوياً بمعنى "الماء المهين" لكي يعلم هذا الإنسان المغرور المتكبّر- بقليل من التأمّل- ماذا كان في البدء؟ كما أنّ هذا الماء المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره، بل خليّة حيّة متناهية في الصغر، لا ترى بالعين المجرّدة، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الاُخرى التي كانت تسبح في ذلك الماء المهين، وباتّحادها مع خلية صغيرة اُخرى مستقرّة في رحم المرأة تكوّنت الخليّة البشرية الاُولى، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!
وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الاُخرى والتي هي ستّة مراحل كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة "المؤمنون" (النطفة، العلقة، المضغة، العظام، إكتساء العظام باللحم، وتمثّل الخلق السوي). ثمّ إنّ الإنسان بعد الولادة كائن ضعيف جدّاً، لا يملك القدرة على شيء، ثمّ يقطع مراحل نموّه بسرعة حتّى بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.
نعم، فهذا الموجود الضعيف العاجز، يصبح قويّاً إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهيّة، وينسى ماضيه ومستقبله، ليكون مصداقاً حيّاً لقوله تعالى: (فإذا هو خصيم مبين). واللطيف أنّ هذا التعبير يتضمّن جنبتين، إحداهما تمثّل جانب القوّة، والاُخرى جانب الضعف، ويظهر أنّ القرآن الكريم أشار إليهما جميعاً.
إنّ هذا العمل لا يكون إلاّ من إنسان يملك عقلا وفكراً وشعوراً وإستقلالا وإرادة، ونعلم بأنّ أهمّ مسألة في حياة الإنسان هي التكلّم والحديث الذي يهيّأ محتواه مسبقاً في الذهن، ثمّ يصبّ في قالب من العبارات ويطلق باتّجاه الهدف كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن حي عدا الإنسان.
وبذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجسّد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه القوّة العظيمة .. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإنّ الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان، فهو يستغلّ كلّ هذه النعم التي أولاها إيّاه ولي نعمته ضدّه في المجادلة والمخاصمة، فيا له من مغفّل أحمق!!
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ﴾ يعلم المنكر للبعث ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ ثم نقلناه حالا فحالا حتى أكملنا عقله ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ ومن قدر على ذلك كيف لا يقدر على الإعادة.