لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل، فأقبلوا عليه جميعاً غاضبين (فأقبلوا إليه يزفّون). "يزفّون" مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها. على أيّة حال، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة. ملاحظات 1- هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟ "التورية"- ويعبّر عنها أحياناً بلفظة (معاريض)- تعني أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر: متى رجعت من السفر؟ فيجيبه: قبل غروب الشمس، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضاً قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر: هل تناولت الطعام، فيجيبه: نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول الطعام اليوم، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس. مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذباً، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذباً، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب، إذ قال الإمام الصادق (ع): "الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقال (ع): لا بأس ليس بكذب"(8). والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل، ولابدّ من وضع ضابطة كليّة: فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان، والمخاطب تصوّر معنىً خاصّاً من تلك الكلمة، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنىً آخر، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئاً، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنىً آخر. وعلى سبيل المثال، جاء في شرح حال "سعيد بن جبير"، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول: ما هو تقييمك لي، فأجابه سعيد: إنّك (عادل)، ففرح جلاوزة الحجّاج، في حين قال الحجّاج: إنّه بكلامه هذا كفّرني، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل. أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز، فمثل هذه التورية- من دون أيّ شكّ- حرام، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء. ولكن، يجب الإنتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقاً للكذب، تكون للتورية أحياناً مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة، ولكن إن لم تكن قد إشتملت على مفسدة، ولم تكن مصداقاً للكذب، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادق (ع) هي من هذا القبيل. بناءً على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافياً، بل يجب أيضاً أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اُخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذباً، فمن المسلّم به جواز إستعمال التورية ما دام هناك مجال لإستخدامها، لكي لا يكون كلامه مصداقاً للكذب. لكن هل أنّ التورية جائزة أيضاً للأنبياء، أم لا؟ يجب القول: إنّه طالما كانت سبباً في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيم (ع) ونظره في النجوم، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ، فلا تنطوي على أي إشكال. 2- إبراهيم والقلب السليم: كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الإصطلاح القرآني الروح والعقل، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد. والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية) (فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكروا به ...).(9) وأحياناً وصفها بأنّها غير طاهرة، كما ورد في (سورة المائدة- 41). واُخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة- 6). ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة- 87). وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادق (ع): (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(10). وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى، إذ ورد في حديث لرسول الله (ص) "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت"(11). الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة، وبه التحق إبراهيم (ع) بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة. نختتم هذا البحث بحديث آخر، إذ ورد في الروايات "إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها): أصلبها في دين اللّه، وأصفاها من الذنوب، وأرقّها على الاُخوان"(12). ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ يسرعون