وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم (قد كانت آياتي تتلى عليكم وكنتم على أعقابكم تنكصون) بدلا من الإستفادة منها والإنتباه للواقع.
كلمة "تنكصون" مشتقّة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.
و "أعقاب" جمع "عقب" على وزن "فَعِل" وتعني عقب القدم.
وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.
ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية (مستكبرين به)(3).
وإضافةً إلى ذلك (سامراً تهجرون) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.
وكلمة "سامراً" مشتقّة من "سَمَرَ" على وزن "نصر" بمعنى التحدّث ليلا.
وقال البعض: إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة، وجُلّ حديثهم يتناول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض.
ويقال "سمراء" لمن إختلط بياضها بشيء من السواد.
و (تهجرون) مشتقة من "هَجْر" وتعني بالأصل الإبتعاد والإنفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض.
لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم.
ويبعث على النفور.
كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.
وقد جاءت كلمة "تهجرون" في الآية بالمعنى الأخير.
فتقول: إنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.
وهذا الاُسلوب اُسلوب الجبناء وضعاف النفوس، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل، ليكيلوا السباب، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار.
إنّهم إختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس، ليصلوا إلى أهدافهم المشؤومة، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية.
يقول القرآن الكريم: إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم إستكبرتم عن قبول الحقّ.
ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله.
كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح.
ولولا ذلك لأهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.
﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي القرآن ﴿فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ تدبرون عن سماعها وقبولها كمن رجع القهقرى.