لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
القرآن يقول هنا: (وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون) كانوا قد آمنوا بالله، واُغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة، (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين). وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره. ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونس (ع) بعث من جديد إلى قومه السابقين، أمّا الذين قالوا: إنّه بعث إلى قوم آخرين، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات. لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى: (فآمنوا فمتّعناهم إلى حين) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوماً مؤمنين، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة. ومن جهة اُخرى، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين، وذلك في الآية (98) (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين). ومن هنا يتّضح أنّ المراد من (إلى حين) هو لفترة معيّنة، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي. سؤال يطرح نفسه: لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه: (مائة ألف أو يزيدون)؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما، وإعطائه هالة من العظمة، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(7). بحوث 1- عرض موجز لحياة يونس(ع): (يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت، وقد اُعطي هذا اللقب لأنّ قصّته إرتبطت بالحوت، وهو من المعروفين، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون. وقال البعض: إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباري عزّوجلّ بهداية من تبقّى من قوم ثمود. والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(8). وقال البعض: إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيح (ع) بحوالي (825) عاماً، وحالياً هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس). وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقاً لما جاء في هذا الكتاب، فإنّ يونس كان مكلّفاً بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة، ومجابهة شرور الطغاة هناك. ثمّ تذكر التوراة حوادث اُخرى، تشبه كثيراً ما جاء في القرآن، مع وجود إختلاف، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول: إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أُوكل إليه في هذا المجال، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة، إذ قالت: إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة، ولهذا توقّف عن الدعوة وإنهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت. والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول: إنّ يونس تألّم وغضب كثيراً عندما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(9). وجاء في أحد فصول التوراة- أيضاً- أنّ يونس بعث مرّتين، إمتنع في الاُولى وابتلي بذلك المصير المؤلم، وفي المرّة الثانية بعث أيضاً إلى المدينة (نينوى) نفسها، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس. وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس، فأحياناً ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها، وأحياناً غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الإعتماد عليه بأي شكل من الأشكال. على أيّة حال، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر. 2- كيف بقي يونس حيّاً في بطن الحوت؟ قلنا: إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟ فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (تسع) ساعات في بطن الحوت، فيما قالت روايات اُخرى: إنّه أمضى ثلاثة أيّام، وأكّدت اُخرى أنّه أمضى أكثر، حتّى أنّ البعض قال: إنّه أمضى (40) يوماً في بطن الحوت. ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال. وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، أنّ يونس أمضى (تسع) ساعات في بطن الحوت(10). وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة: إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(11). وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر- من دون أي شكّ- يعدّ أمراً غير عادي، حيث أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّاً لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن اُمّه حيّاً، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسّية وحصوله على الأوكسجين اللازم عن طريق دم والدته. ووفقاً لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ، وهذه ليست المعجزة الاُولى التي نصادفها في القرآن المجيد، فالباري عزّوجلّ- الذي حفظ إبراهيم (ع) في وسط النار، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقاً يابساً وسط البحر، وخلّص نوحاً من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام- قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت. وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمراً عجيباً، إذ يوجد حالياً نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (30) متراً ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض، وقلبه يزن طنّاً واحداً. في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة. 3- دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة: وكما نعرف، فإنّ إستعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته. من هذه القصّة العجيبة يمكن إستخلاص الكثير من المواعظ والعبر: أ- ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمراً مهمّاً عند الله، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّاً، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنباً كبيراً يرتكبه عوام الناس، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية، والتي تعني العبد الهارب. وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون: هناك شخص عاص بيننا! وعاقبة الأمر أنّ الباري عزّوجلّ إبتلاه بسجن رهيب، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله، وكان منهار القوى مريضاً. ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى، وإلاّ فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير. ب- أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المومنين من الغمّ والحزن والإبتلاءات والمشاكل، وهو نفس السبيل الذي إنتهجه يونس، وهو إعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه. ج- هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة، وإنقاذ أنفسهم من العذاب، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان، وإنتخاب شخص "عالم" قائداً لهم. د- هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار، ونظير هذا المعنى ورد أيضاً في قصّة نوح (ع) والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح. هـ- أخيراً فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباري عزّوجلّ العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالماً من هناك، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره. 4- الجواب على سؤال: هنا يطرح هذا السؤال: عند بيان قصص الأقوام الاُخرى في القرآن المجيد، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الإستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟ هناك إجابتان على هذا السؤال: الاُولى: هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء. الثانية: أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك، وهو الاُسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر. 5- القرعة ومشروعيتها في الإسلام: وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام، فعن الإمام الصادق (ع) "أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله، أليس الله عزّوجلّ يقول: (فساهم فكان من المدحضين)"(12). وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة إستعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث إنطبقت تماماً مع الواقع. وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول الله (ص)، قال فيه: "ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج لهم المحقّ"(13). ومن يريد الإطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف). ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ إلى آجالهم.