الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اُخرى من خرافات مشركي العرب، والتي تزعم بوجود نسبة بين الله عزّوجلّ والجنّ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب، لأنّهم اُناس تافهون، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً).
فما هي النسبة الموجودة بين الله والجن؟
وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال، منها:
قال البعض: إنّهم كانوا ثنويين، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة، الله خالق المحبّة، والشيطان خالق الشرور.
وهذا التّفسير مستبعد، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفاً عند العرب، بل كان منتشراً في إيران خلال عهد الساسانيين.
واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار، والملائكة كذلك، ولذلك أطلقوا كلمة "الجنّ" عليها. إذاً، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.
ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين، إضافةً إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.
وهناك تفسير ثالث يقول: إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله، فيما يعتبرون الملائكة بناته.
وهذا التّفسير مستبعد أيضاً، لأنّ إطلاق كلمة "نسب" على الزوجة غير وارد.
والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.
على أيّة حال، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة، ويقول: إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله، يعلمون جيّداً أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون (ولقد علمت الجنّة إنّهم لمحضرون).
والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي: إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.
ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(1).
﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ أي الملائكة لاجتنانهم عن العيون وقيل: قالوا إن الله صاهر الجن فحدث الملائكة ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ﴾ أي الكفرة خاصة أو مع الجنة ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ في العذاب.