ولإيقاظ اُولئك المغرورين المغفّلين، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر، ليريهم مصير الاُمم المغرورة والمتكبّرة، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها (وكم أهلكنا من قبلهم من قرن).
أي إنّ اُمماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء، وإنكارها آيات الله، وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت لإنقاذ أنفسهم (فنادوا ولات حين مناص).
فعندما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كلّ الجسور التي خلفهم، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً.
وكلمة (لات) جاءت للنفي، وهي في الأصل (لا) نافية اُضيفت إليها (تاء) التأنيث، لتعطي معنى التأكيد(4).
"مناص" من مادّة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ، ويقال: إنّ العرب عندما كانت تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة، وخاصّة في الحروب كانوا يكرّرون هذه الكلمة ويقولون (مناص ... مناص) أي: أين الملاذ؟ أين الملاذ؟ ولأنّ هذا المفهوم يتناسب مع معنى الفرار، وأحياناً تأتي بمعنى إلى أين الفرار(5).
على أيّة حال، فإنّ اُولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي، وعندما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما إستغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم.
هذه كانت سنّة الله مع كلّ الاُمم السابقة، وستبقى كذلك، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر ولا تتبدّل.
ومن المؤسف أنّ الناس- على الأغلب- غير مستعدّين للإتّعاظ من تجارب الآخرين، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة، التجارب التي تقع أحياناً مرّة واحدة في طول عمر الإنسان، ولا تتكرّر ثانية، وبصورة أوضح: إنّها الاُولى والأخيرة.
﴿كَمْ﴾ أي كثير ﴿أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ تهديد لهم ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أي ليس الحين حين مفر.