وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل، خرجوا من بيته، ثمّ إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحمّلوا المشاق لأجله، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام، وإنّه يريد أن يترأّس علينا (وإنطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد).
"إنطلق" مشتقّة من (إنطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.
و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم.
وجملة (لشيء يراد) تعني أنّ هناك أمراً يراد بنا. ولكونها جملة غامضة بعض الشيء، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة، منها: أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرم (ص)، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها، وقالت: إنّ ظاهرها يدعو إلى الله، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب، وما هذه الدعوة إلاّ ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر، أي السيادة والرئاسة، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم، وهذا الاُسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى
رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي إهتمام، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم، أي بأصنامهم.
ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح، عندما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم).(4)
وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو: ياعبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم، لأنّ هذا هو المطلوب منكم.
أمّا البعض الآخر فقد قال: المقصود هو أنّ محمّداً يستهدفنا نحن، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب!
فيما إحتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّداً لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم.
وأخيراً إحتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا، وعلى أيّة حال، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا.
وبالطبع، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير.
وعلى أيّة حال، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.
﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ﴾ الأشراف ﴿مِنْهُمْ﴾ يقول بعضهم لبعض: ﴿أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ على عبادتها ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الأمر ﴿لَشَيْءٌ﴾ من نوب الدهر ﴿يُرَادُ﴾ بنا فلا يدفع