التّفسير
تعلّم من داود:
نبيّ الله داود (ع) أحد كبار أنبياء بني إسرائيل وحاكماً لدولة كبيرة، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدّة آيات بيّنات من القرآن الكريم.
وتتمّة للبحوث السابقة التي إستعرضت فيها آيات القرآن أذى المشركين لرسول الله (ص) ونسبتهم إليه ما لا يليق به. فإنّ القرآن الكريم لمواساة رسول الله وأصحابه المؤمنين القلائل، طرح قصّة داود (ع)، داود الذي منحه الله قدرة واسعة، حتّى أنّ الجبال والطيور كانت مسخّرة له، ليبيّن تبارك وتعالى من خلال هذه القصّة لنبيّه الأكرم أنّ اللطف الإلهي إن شمل أحداً فإنّ عموم الناس لا يستطيعون عمل أي شيء إزاء هذا اللطف.
فداود- مع هذه القدرة العظيمة التي منحها إيّاه ربّ العالمين- لم يسلم من تجريح الآخرين وبذاءة لسانهم، وفي هذا الكلام مواساة للنبي الكريم (ص) في أنّ هذه المسألة لا تنحصر بك فقط، وإنّما شاركك فيها كبار الأنبياء (ع).
ففي البداية تقول آيات بحثنا: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب).
"الأيد" بمعنى القدرة، وتأتي أيضاً بمعنى النعمة.
وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود، إذ كان يتمتّع بقوّة جسدية مكّنته من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قويّة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه على جالوت، فأسقطه من فرسه مضرّجاً بدمه خلال إحدى المعارك.
وقال البعض: إنّ الحجر مزّق صدر جالوت وخرج من ظهره.
أمّا من حيث قدرته السياسية، فقد كانت حكومته قويّة ومستعدّة دائماً لمواجهة الأعداء، بكلّ قوّة وإقتدار، حتّى قيل أنّ الآلاف من جنده كانت تقف على أهبّة الإستعداد من المساء حتّى الصباح في أطراف محراب عبادته.
ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية، فإنّه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله، ويصوم نصف أيّام السنة.
وأمّا من حيث النعم الإلهيّة، فقد أنعم عليه الباريء عزّوجلّ بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.
خلاصة الحديث، إنّ داود كان رجلا ذا قوّة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة وفي السياسة، وكان أيضاً صاحب نعمة كبيرة(1).
"أوّاب" مشتقّة من (أوب) على وزن (قول) وتعني العودة الإختيارية إلى أمر ما، ولكون (أوّاب) على صيغة المبالغة، فإنّها تشير إلى أنّه كان كثيراً ما يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وكان يتوب عن أصغر غفلة وترك للأولى.
فقال تعالى ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ فقد ابتلي أيضا ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾ القوة في العبادة يقوم نصف الليل ويصوم يوما ويفطر يوما ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رجاع إلى مرضاة الله.