وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود وخلافته في الأرض، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم، وجاء في قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدراً لكلّ الحقوق، وهي: ما الهدف من وجود الخلق؟ فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثاً، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت اُسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.
وبعبارة اُخرى: إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة.
الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك يوم للحساب، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثاً.
ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للإبتلاءات التي إبتلينا بها اليوم، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه، ولا هدف يرتجى من ورائه، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته؟!
الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادىء الإلهيّة، والتي تقول إنّ الباري عزّوجلّ لم يخلق العالم عبثاً وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة، فالسبب الرئيسي يكمن في إبتعادهم عن هذا الأمر، ولهذا فإنّ اُسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!
على أيّة حال، فإنّ الباري عزّوجلّ حكيم، ومن غير الممكن أن يخلق هذا العالم من دون هدف، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ لا لغرض أو عبثا ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ أقيم الظاهر مقام المضمر للتصريح بكفرهم وإشارة إلى العلة