ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القويّة ناتج من حبّه للدنيا، جاء في قوله تعالى: (فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي) انّي اُحبّ هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره، واُريد الإستفادة منها في جهاد الأعداء.
لقد ورد أنّ العرب تسمّي "الخيل" خيراً، وفي حديث عن رسول الله (ص)قال فيه: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة"(2).
وإستمرّ سليمان (ع) ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء الله، وهو يعيش حالة من السرور، حتّى توارت عن أنظاره (حتّى توارت بالحجاب).
كان هذا المشهد جميلا ولطيفاً لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اُخرى (ردّوها عليّ). وعندما نفّذت أوامره بإعادة الخيل، عمد سليمان (ع) إلى مسح سوقها وأعناقها (فطفق مسحاً بالسوق والأعناق).
وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأنّ من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلّقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلّق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.
"طفق" بإصطلاح النحويين من أفعال المقاربة، وتأتي بمعنى "شرع".
"سوق" هي جمع (ساق) و (أعناق) جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.
ما ذكرناه بشأن تفسير هذه الآية يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسّرين كالفخر الرازي، كما تمّت الإستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيّد المرتضى، إذ قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الإدّعاءات الباطلة والمحرّمة التي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان (إنّ الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال: (نعم العبد إنّه أوّاب) فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنّه يتلّهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والذي يقتضيه الظاهر أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إيّاه، لأنّ الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان (ع) مأموراً بمثل ذلك)(3).
أمّا العلاّمة المجلسي فقد ذكر في كتابه (بحار الأنوار) في باب النبوّة، تفسيراً لهذه الآيات يشابه كثيراً ما ذكر أعلاه(4).
على أيّة حال- وفق هذا التّفسير- لم يصدر من سليمان أي ذنب، ولم يحدث أي خلل في ترتيب الآيات، ولا تبدو أيّة مشكلة حتّى نعمد إلى توضيحها(5).
﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ﴾ أردت ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾ أي الخيل سماها خيرا لأنه معقود بنواصيها كما في الخبر ﴿عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ عن أمري إياي بحبها وارتباطها أو عن الصلاة ﴿حَتَّى تَوَارَتْ﴾ أي الشمس بدلالة العشي عليها ﴿بِالْحِجَابِ﴾ بحجاب الأفق أي غربت أو حتى غابت الخيل عن بصره حين أجريت.