لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وهنا شمل الباريء عزّوجلّ أيّوب (ع) مرّة اُخرى بألطافه ورحمته، وذلك عندما أوجد حلاًّ لهذه المشكلة المستعصية على أيّوب (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث). "ضغث" تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها. وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيّوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت يعقوب، فقد إختلف المفسّرون في تفسيره ... فقد نقل عن (ابن عبّاس) أنّ الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيّوب، وقال لها: إنّي اُعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى: إنّي الوحيد الذي كنت السبب في معافاته، ولا اُريد أيّ اُجرة على معالجته ... الزوجة التي كانت متألّمة ومتأثّرة بشدّة لإستمرار مرض زوجها وافقت على الإقتراح، وعرضته على زوجها أيّوب فيما بعد، فتأثّر أيّوب كثيراً لوقوع زوجته في شرك الشيطان، وحلف أن يعاقب زوجته. وقال البعض إنّ أيّوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما، فتأخّرت في العودة إليه، فتأثّر أيّوب الذي كان يعاني من آلام المرض، وحلف أن يعاقب زوجته. على أيّة حال، فإنّ زوجته كانت تستحقّ الجزاء من هذا الجانب، أمّا من جانب وفائها وخدمتها أيّوب طوال فترة مرضه فإنّه يجعلها تستحقّ العفو أيضاً. حقّاً إنّ ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقاً واقعياً لحلفه، ولكنّه نفّذ هذا الأمر لحفظ إحترام اسم الله، والحيلولة دون إشاعة مسألة إنتهاك القوانين، وهذا الأمر ينفّذ فقط بشأن الطرف الذي يستحقّ العفو، وفي الموارد الاُخرى التي لا تستحقّ العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل(3). الآية الأخيرة في بحثنا هذا- التي هي بمثابة عصارة القصّة من أوّلها حتّى آخرها- تقول: (إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب). ومن الواضح أنّ دعاء أيّوب الباريء عزّوجلّ، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه، ورفع البلاء والمرض عنه، كلّ هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمّله، ذلك الصبر والتحمّل الذي استمرّ لمدّة سبع سنين، وفي روايات اُخرى لمدّة ثمانية عشر عاماً- للأوجاع والأمراض والفقر والعسر وإستمرار الشكر. الذي يلفت النظر في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل. أوّلا: مقام عبوديته. ثانياً: صبره وتحمّله وثباته. ثالثاً: إنابته المتكرّرة إلى الله. بحوث 1- دروس مهمّة في قصّة أيّوب رغم أنّ قصّة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة، إلاّ أنّها وضّحت حقائق مهمّة، منها: أ- الإمتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً ويشمل حتّى الأنبياء الكبار، إذ يكون إمتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين، لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس، ومن دون هذا الإمتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر. ب- الفرج بعد الشدّة نقطة اُخرى تكمن في مجريات هذه القصّة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "عند تناهي الشدّة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء"(4). ج- مجريات هذه القصّة توضّح بصورة جيّدة بعض غايات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضاً مع برهان النظم في بحوث التوحيد، لأنّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان- من أنبياء الله الكبار وحتّى عموم الناس- يعدّ أمراً ضرورياً، فالإمتحان- كما ذكرنا- يفجّر طاقات الإنسان الكامنة، ويوصله في آخر الأمر إلى التكامل في وجوده. لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادق (ع): "إنّ أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل"(5). كما ورد عن الإمام الصادق (ع): "إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلاّ بالإبتلاء"(6). د- أحداث هذه القصّة تعطي درساً في الصبر لكلّ المؤمنين الواقعيين الرساليين، الصبر والتحمّل الذي يعقبه الظفر والإنتصار في كلّ المجالات، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند الباريء عزّوجلّ. هـ- أحياناً يكون إمتحان شخص ما، هو إمتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه، ومقدار وفائهم له، فعندما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه، ولم يكتفوا بالإبتعاد عنه، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه، وكشفوا بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه، والشعر المعروف يقول: جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان جراح الكلام ليس لها التئام. و- أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم اُولئك الذين يذكرون الله دائماً في السرّاء والضرّاء، وفي البلاء والنعمة، وفي المرض والعافية، وفي الفقر والغنى، وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر. قال أمير المؤمنين (ع) في خطبته الخاصّة بوصف المتّقين التي بيّنها لصاحبه المخلص "همام" وإستعرض فيها أكثر من (100) صفة للمتّقين، قال في إحدى تلك الصفات: "نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء". ز- هذه القصّة أكّدت مرّة اُخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة، ونزول المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف الباريء عزّوجلّ، كما أنّ إمتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بُعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبداً مقرّباً لله مع إمتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة، بشرط أن لا يكون عبداً لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها. 2- أيّوب (ع)في القرآن والتوراة رغم أنّ الباريء عزّوجلّ أشاد بالروح الكبيرة لهذا النّبي الكبير الذي هو مظهر الصبر والتحمّل في قرآنه المجيد في أوّل القصّة الخاصّة به وفي آخرها. فإنّ قصّة هذا النّبي الكبير- ممّا يؤسف له- لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء، حيث دسّوا فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزّه عنها والمطهّر منها، ومن تلك الخرافات القول بأنّ الدود غطّى بدنه أثناء فترة مرضه، وتعفّن جسده، بحيث أنّ أهل قريته ضاقوا به ذرعاً وأخرجوه من قريتهم. ودون أدنى شكّ، فإنّ مثل هذه الروايات مزيّفة رغم ورودها في طيّات كتب الحديث، لأنّ رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النّبي المرسل- في أي زمان- بعيداً عن مثل تلك التقوّلات، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق، وأن لا تتوفّر فيه أشياء تكون سبباً لتنفّرهم فيه وإبتعادهم عنه، كالأمراض والعيوب الجسدية والأخلاق السيّئة، لأنّها تتناقض مع فلسفة الرسالة، فالقرآن المجيد يقول بشأن رسول الله (ص) في الآية (159) من سورة عمران: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لأنفضّوا من حولك). وهذه الآية دليل على أنّ النّبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتفرّقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيّوب وقبل موضوع (مزامير داود) وهذا الجزء يشتمل على (42) فصلا، كلّ فصل يشرح مواضيع مختلفة، وقد وردت في بعض الفصول مواضيع سيّئة وقبيحة، ومنها ما ورد في الفصل الثالث والذي يقول: إنّ أيّوب كان كثير الشكوى، في حين أنّ القرآن الكريم كان يعظّم ويشيّد بمقام صبره وتحمّله. 3- إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار ثلاثة أنبياء كبار اُطلقت عليهم صفة (أوّاب) في هذه السورة، وهم: داود وسليمان وأيّوب، وفي سورة (ق) في الآية (32) اُطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة، قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ). هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى، وعندما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة. وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة الرجوع وتكراره) يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّاً تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم، ووساوس النفس والشيطان، وإن إبتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها. هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله وإجتناب نواهيه، أي أنّ أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا. وكلمة (أوّاب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ (ياجبال أوّبي معه والطير) والخاصّة بداود- أيضاً- تعطي معناً آخر، وهو ترديد الصوت، إذ أنّ الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن ردّدي الصوت مع داود، ولهذا فإنّ (أوّاب) تعني كلّ من يردّد الأوامر الإلهيّة والتسبيح والحمد الذي تردّده كلّ موجودات الكون حسب قوانين الخلقة، وممّا يذكر أنّ أحد معاني كلمة (أيّوب) هي (أوّاب). ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ حزمة من حشيش ونحوه ﴿فَاضْرِب بِّهِ﴾ زوجتك ضربة واحدة وكان قد حلف أن يضربها مائة جلدة لإبطائها عليه أو لقول أنكره ﴿وَلَا تَحْنَثْ﴾ بترك ضربها حلل الله يمينه بذلك ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ على البلاء ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ أيوب ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ إلى الله بالانقطاع إليه