ثمّ تتطرّق الآيات إلى أنواع اُخرى من العذاب الإلهي، إذ تقول: (هذا فليذوقوه حميم وغسّاق)(3). أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.
"الحميم" هو الماء الحارّ الشديد الحرارة، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنّم، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصّص لأهل الجنّة.
وكلمة (غسّاق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل. أمّا ابن عبّاس فقد فسّرها بأنّها شراب بارد جدّاً (بحيث إنّ برودته تحرق وتجرح أحشاء الإنسان) ولكن ليس هناك في مفهوم هذه الكلمة ما يدلّ على هذا المعنى، غير مقارنتها بالحميم وهو الماء الحارّ الشديد الحرارة، وهذه المقارنة قد تكون منشأ هذا الإستنباط.
وقال الراغب في مفرداته: إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنّم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.
ولابدّ أن يكون لونه الغامق هو السبب في إطلاق هذه الكلمة عليه، لأنّ الذي يحترق في نار جهنّم لا يبقى منه سوى هيكل محروق وقيح أسود اللون.
على أيّة حال، فإنّ ما يستشفّ من بعض الكلمات هو أنّ (غسّاق) تعني الرائحة الكريهة النتنة التي تزعج الآخرين.
وفسّره البعض الآخر بأنّه أحد أنواع العذاب الذي لم يطلع عليه أحد سوى الله، وذلك لأنّهم إرتكبوا ذنوباً ومظالم شديدة لم يطلع عليها أحد سوى الله، فلذلك جعل عقوبتهم سريّة وغير معروفة، مثلما وعد الباريء عزّوجلّ المتّقين بنعم لم يكشف عنها وأخفاها عنهم، لإخفائهم أعمالا صالحة كانوا يقومون بها في الحياة الدنيا، وذلك ما ورد في الآية (17) من سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين).
آيات بحثنا تشير مرّة اُخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم (وآخر من شكله أزواج)(4). أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.
"أزواج" تعني الأنواع والأقسام، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اُخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.
وفي الحقيقة فإنّ هذه تقابل عبارة (فاكهة كثيرة) الواردة في الآيات السابقة،
التي تشير إلى أنواع مختلفة من النعم وفواكه الجنّة. ويمكن أن يكون هذا التشابه في الشدّة والألم، أو من جميع الجهات.
﴿هَذَا﴾ أي العذاب هذا أو مفعول فعل يفسره ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ أو مبتدأ خبره ﴿حَمِيمٌ﴾ ماء شديد الحرارة ﴿وَغَسَّاقٌ﴾ ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار.