إلاّ أنّ إبليس إختار- بكلّ تعجّب- الشقّ الثاني، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك، لذلك قال- بكلّ وقاحة- أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر الباريء عزّوجلّ: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
وعلّل إبليس عدم سجوده لآدم وعصيانه أمر الله بالمقدّمات التالية:
أوّلا: إنّني خلقت من نار، أمّا هو فقد خلق من طين، وهذه حقيقة صرّح بها القرآن المجيد في الآيتين 14 و15 من سورة الرحمن : (خلق الإنسان من صلصال كالفخّار وخلق الجانّ من مارج من نار).
ثانياً: إنّ الشيء المخلوق من النار أفضل من الشيء المخلوق من التراب، لأنّ النار أشرف من التراب.
ثالثاً: لا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقاً بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.
وخطأ إبليس يكمن في المقدّمتين الأخيرتين، وذلك من عدّة وجوه:
أوّلا: لأنّ آدم لم يكن تراباً فقط، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية، وهذا هو سبب عظمته، وإلاّ فأين التراب من كلّ هذا الفخر والإستعداد والتكامل؟
ثانياً: التراب ليس بأدنى من النار، وإنّما هو أفضل منها بكثير، لأنّ كلّ الحياة أصلها من التراب، فالنباتات وكلّ الموجودات الحيّة بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب، وكلّ المعادن الثمينة مخفية في وسط التراب، خلاصة الأمر أنّ التراب هو مصدر كلّ أنواع البركة، والنار رغم أهميّتها الكبرى في الحياة فإنّها لا تبلغ أبداً أهميّة التراب، وإنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة. والأهمّ من ذلك أنّ المواد التي يستفاد منها لإشعال النيران كالحطب والفحم والنفط هي من بركة الأرض.
ثالثاً: المسألة، هي مسألة إطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها، لأنّه خالقنا ونحن عبيده ويجب أن نطبّق أوامره.
وعلى أيّة حال، لو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفراً عجيباً، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة الله، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ بالله)، وهذا الموقف المخزي لإبليس دليل على جهله التامّ، لأنّه لو كان قد إعترف بأنّ عدم سجوده إنّما كان لهوى هو هوى النفس، أو أنّ غروره وتكبّره حالا بينه وبين السجود لآدم، وما إلى ذلك لكان الأمر أهون، إذ أنّه يكون هنا قد أقرّ بإرتكاب ذنب واحد، إلاّ أنّه بكلامه هذا ولتبرير عصيانه، عمد إلى نفي حكمة الباريء عزّوجلّ وعلمه ومعرفته، وهذا يوضّح سقوطه إلى أدنى درجات الكفر والإنحطاط.
المخلوق مقابل خالقه يفتقد الإستقلال، إذ أنّ كلّ ما لديه هو من خالقه، ولهجة كلام إبليس توضّح أنّه كان يريد إستقلالا وحكماً في مقابل حكم الباريء عزّوجلّ، وهذا مصدر آخر من مصادر الكفر.
ويمكن القول أنّ أسباب ضلال الشيطان، تعود إلى عدّة اُمور منها الغرور والتكبّر والجهل والحسد، وهذه الصفات القبيحة اتّحدت وأسقطته إلى الحضيض بعد سنين طوال من مرافقة الملائكة، وكأنّه كان معلّماً لهم .. أسقطته من أوج الفخر إلى أدنى الحضيض، وما أخطر هذه الصفات القبيحة أينما وجدت!!
وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في إحدى خطبه في نهج البلاغة: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ... عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته"(1).
نعم، فعمليّة بناء قصر عظيم قد تستغرق سنوات عديدة، ولكن عملية تدميره قد لا تستغرق سوى لحظات بتفجير قنبلة قويّة.
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ فسر في الأعراف.