لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التّالية تؤّكد مرّة اُخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: ( ألا لله الدين الخالص) وهذه العبارة ذات معنيين: الأوّل: هو أنّ البارىء عزّوجلّ لا يقبل سوى الدين الخالص، والإستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك، أو خلط للقوانين الإِلهية بغيرها من القوانين الوضعية. والثّاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط، لأن أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام. ولكن وفق ما جاء في ذيل الآية السابقة فإنّ المعنى الأوّل أنسب، لأن الذين يؤدون المطلوب منهم بإخلاص هم العباد، ولهذا فإنّ هذا الخلوص في الآية مورد بحثنا يجب أن يراعى من جانب أُولئك. وهناك دليل آخر على هذا الكلام، وهو حديث ورد عن رسول الله (ص)، جاء فيه أن رجلا قال لرسول الله: يا رسول الله! إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله(ص): لا، قال: يا رسول الله! إنّا نعطي التماس الأجر والذكر، فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله (ص): "إن الله تعالى لا يقبل إلاّ من أخلص له، ثمّ تلا هذه الآية: (ألا لله الدين الخالص)"(2). وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها، فهناك تقول: (فاعبدالله مخلصاً له الدين) وهنا تقول: (ألا لله الدين الخالص). مسألة الإخلاص تناولتها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية، وبدء الجملة مورد بحثنا بـ (ألا) التي تستعمل عادة لجلب الإنتباه، هو دليل آخر على أهمية هذا الموضوع. ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا طريق الخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والإنحراف: (و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى، إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون)(3)، وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم.. هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ البارىء عزّوجلّ سيحاكمهم في يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر. منطق عبدة الأصنام واضح هنا، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ الله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس، فهو منزّه عن أن يكون مورداً للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: من الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم، فنتخذهم أرباباً من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر. ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، ولأنّهم كانوا يزعمون أن لا فرق بين التماثيل وأُولئك المقدسين وأنّ لهما نوعاً من التوحّد،، لذا عمدوا إلى عبادة الأصنام واتخاذه آلهة لهم. وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم، هم أُولئك الذين خلقهم الله وقربهم إلى نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم، وكانوا يعتبرون البارىء عزّوجلّ هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهتهم الوهمية - أي الملائكة والجن وأمثالهم - هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته(4). وبالطبع فإنّ هناك أسباباً اُخرى لعبادة الأصنام، ومنها أنّ الإحترام الفائق الذي يكنونه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبب في احترام حتى التمثال الذي ينحت أو يصنع لهم بعد وفاتهم، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل طابعاً استقلالياً، ويتبدل الإحترام إلى عبادة، ولهذا فإنّ الإسلام نهى بشدّة عن صنع التماثيل. وقد ورد في كتب التأريخ أنّ عرب الجاهلية كانوا يكنون إحتراماً فائقاً للكعبة الشريفة ولأرض مكّة المكرّمة، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر صغيرة من تلك الأرض عندما يذهبون إلى مكان آخر، ويضفون عليها الإحترام والتقديس، ومن ثمّ يعمدون إلى عبادتها. وما ورد في قصة (عمرو بن لحي)التي جاء فيها، أنّ عمراً في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام شاهد بعض مشاهد عبدة الأصنام، وفي طريق عودته إلى الحجاز، اصطحب معه صنماً من بلاد الشام، ومنذ ذلك الحين بدأت عبادة الأصنام في الحجاز هذه القصّة لا تتعارض مع ما ذكرناه لأنّه يبيّن بعض جذور عبادة الأصنام، وهدف أهل الشام من عبادة الأصنام كان مأخوذاً من أحد تلك الأمور أو نظائرها. عبادة الأصنام - بأي شكل كانت - ما هي إلاّ أوهام وخيالات لا صحة لها ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل لمعرفة الله. والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصّة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل بالله من دون أي واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته، ويطلب العفو والتّوبة، فكلّ هذه الاُمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضّح هذه الحقيقة، لانّ قراءة العباد المستمر لهذه السورة في صلواتهم اليومية، تجعل العبد على اتصال مباشر مع البارىء، عزّوجلّ، إذ أنّه يقرؤها ويطلب من الله - دون أي واسطة - حاجاته منه. سبل الإستغفار والتوبة، وكذلك طلب العون من البارىء، عزّوجلّ وما ورد في الأدعية ا لمأثورة، كلها تبيّن أنّ الإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر، وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة باذن البارىء عزّوجلّ وسماحه، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد. ويجب أن تكون العلاقة هكذا، لأنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أيّ شيء، كما يقول بذلك القرآن: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(5)، (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)(6). وبهذا الشكل فالبارى، عزّوجلّ ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كلّ قريب، وموجود في مكان وفي أعماق قلوبنا. وفقأ لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجنّ ونظائرهم، أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافة إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة اللّه، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار). فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم، ولا إلى الجنّة في العالم الآخر، لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه، ولأنّ البارىء عزّوجلّ يبعث فيض هدايته إلى من يراه لائقاً ومستعداً لإستقبالها، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل الإستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم. ملاحظة الفرق بين التنزيل والإنزال: في الآية الأولى وردت عبارة (تنزيل الكتاب)، وفي الثانية عبارة (أنزلنا إليك الكتاب)، فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين في هاتين الآيتين؟ كتب اللغة تقول: إنّ كلمة (تنزيل)تعني نزول الشيء على عدّة دفعات، في حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة(7). قال بعضهم إنّ لكل منهما معنى خاصاً بها وأن (تنزيل) تعني - فقط - النّزول على عدّة دفعات، و (إنزال) تعني - فقط - النّزول دفعة واحدة(8). اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنّما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل بصورتين: الأُولى: نزل دفعة واحدة على قلب النّبي محمّد (ص)في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)(9) و (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)(10) و (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)(11). وفي كلّ هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة واحدة. ويوجد نزول آخر تمّ بصورة تدريجية استغرقت (23) عاماً، أي طوال فترة نبوّة الرّسول الأكرم (ص) إذ كانت تنزل في كلّ حادثة وقضية آية تناسبها، وتنتقل بالمسلمين من مرحلة إلى اُخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي والعقائدي والإجتماعي، كما ورد في الآية (106) من سورة الإسراء: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا). والذي يثير الإنتباه، هو أنّ الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحياناً في آية واحدة للتعبير عن مقصودين، كما ورد في الآية (20) من سورة محمّد: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت). فكأن المسلمين يطلبون احياناً نزول السورة القرآنية تدريجاً كي يهضموا محتوياتها بصورة جيدة، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول السورة دفعة واحدة، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله، لانّ نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات - كما ذكرنا - كانت السورة تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شيء يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين العبارتين، وطبقاً لهذا فإنّ آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النّزول بصورة جامعة كاملة. ومع هذا فإنّه توجد هناك بعض الأُمور الإستثنائية لتفسير وبيان الإختلاف المذكور أعلاه، كماورد في الآية (32) من سورة الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا). بالطبع، لكل من (التنزيل) و (الإنزال) فوائد و آثار خاصّة به، سنتطرق إليها في مواضعها(12). ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ كعيسى والأصنام قائلين ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ قربى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين فيثيب المحق ويعاقب المبطل والضمير للكفرة وأضدادهم ﴿إن إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ بنسبة الشريك والولد إليه ﴿كَفَّارٌ﴾ لنعمه بعبادة غيره.