لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين، إذ تقول: (لهم من فوقهم ظلل من النّار ومن تحتهم ظلل). وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كلّ جانب، فهل هناك أعظم من هذا؟ وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟ "ظلل" جمع (ظلّة)على وزن "سنّة" وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا. وطبقاً لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النّار اطلاق مجازيومن باب التوسع في معنى الكلمة. بعض المفسّرين قالوا: بما أنّ أصحاب النّار يتقلبون بين طبقات جهنم، فإنّ ستائر النّار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (55) من سورة العنكبوت تشبه هذه الآية: (يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون). هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا، إذ أن الجهل والكفر والظلم محيط بكلّ وجودهم، ومستحوذ عليهم من كلّ جانب، ثمّ تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إياهم: (ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون). إضافة كلمة (العباد)إلى لفظ الجلالة في هذه الآية، ولعدّة مرّات اشارة إلى أنّ تهديد الباريء عزّوجلّ لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم، ومن هنا يتضح أنّه لا حاجة لتفسير كلمة (العباد) هنا على أنّها تخصّ المؤمنين، فهي تشمل الجميع، كي لا يأمن أحد من العذاب الإلهي. ملاحظات 1 - حقيقة الخسران! يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه، وأحياناً تنسب إلى الإنسان، عندما يقال: (الشخص الفلاني خسر) وأحياناً تنسب إلى العمل عندما يقولون: (خسرت تجارته). وتستخدم كلمة (خسران) أحياناً في حالة فقدان الثروة الظاهرية، كالمال والجاه، الدنيوي، وأحياناً اُخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهذا هو الشيء الذي سمّاه الباريء عزّوجلّ (الخسران المبين) فكلّ خسران ذكره الباريء عزّوجلّ في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها(7). وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة، فالبعض منهم يجني أرباحاً كبيرة، والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة. آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه، حيث توضح الحقيقة التالية: إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار هذا وذاك، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الإستفادة من الثروة، وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة، لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن، ولا يعطى بالمعاذير! وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين؟ الجواب هو: أوّلا: لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهم - أي العمر والعقل والإدراك والعواطف الانسانية - بدون مقابل. ثانياً: لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمراً هيناً بعض الشيء، لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذاباً أليماً وعظيماً. ثالثأ: إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن، وهذه هي (الخسران المبين). 2ـ ما هو المراد من الآية: (فاعبدوا ما شئتم) عبارة (فاعبدوا ما شئتم) جاءت بصيغة أمر تهديدي، وهذا الأُسلوب يستعمل عندما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب، إذ أنّ آخر ما يقال له: (افعل ما تشاء، ولكن انتظر العقاب أيضاً) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة، وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم. 3 - من هم الأهل؟ الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنّ أُولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب، وإنّما خسروا أهليهم أيضاً. بعض المفسّرين قال: إنّ المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه. والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة، اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون. والبعض الآخر يقول: إنّها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا. والمعنى الأخير - مع الإلتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمة - يعد أنسب من الجميع، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين، وأما إذا كانوا مشركين فمضافاً الى أنّهم لا ينفعونهم، سيكونون سبباً في زيادة العذاب الاليم. ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أطباق ﴿مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أطباق منها هي ظلل الآخرين ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الذي ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ ليجتنبوا ما يوجبه ﴿يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ بحذف الياء فيهما.