لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الذين هم على مركب من نور!! في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اُخرى دلائل التوحيد والمعاد، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية الباريء عزّوجلّ في نظام عالم الكون، وذلك عندما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرم(ص)باعتباره القدوة لجميع المؤمنين (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض)(1). قطرات المطر التي تبعث الحياة حينماتنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اُخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرّة اُخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون و قنوت و آبار. كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفاً. "ينابيع" هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الإمتصاص، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماماً، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأُخرى غير نفوذية، وبدرجات معينة، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة، تبيّن قدرة الباريء عزّوجلّ. والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحياناً ذات طبقات متعددة، بعضها نفوذي والبعض الأخر غير نفوذي، ومرتبة الواحدة فوق الأُخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة). وتضيف الآية فيما بعد: (ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه) ذات الأشكال المختلفة. أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة، ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة. وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق، فيما تطلق كلمة (شجر)على الأشجار ذات السيقان القوية، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الإستفادة منها للغذاء، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبية التي يؤخذ منها الدواء، وأحياناً نرى في غصن واحد، ولربّما فيوردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة، تسبح وتوحد الباريء عزّوجلّ بلسان صامت. ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اُخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول: (ثم يهيج فتراه مصفراً)(2) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى: (ثم يجعله حطاماً). نعم، إن في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه الباريء عزّوجلّ لعالم الوجود، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثمّ بمسألة البعث و عودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات، إلاّ أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضاً مع وجود بعض الإختلاف في مدّة الأعمار، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط و الشباب، ومن ثمّ الذبول والكهولة، وفي النهاية الموت. و كتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة بين المؤمنين و الكافرين، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض، وكما أنّ الأرض التي لها الإستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله، هي - فقط - التي تستفيد من آيات الله، وذلك طبقاً لقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه)(3) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!! أمّا القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى، ولا الآيات القرآنية المؤثرة، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ. نعم (أولئك في ظلال مبين). "القاسية" مشتقّة من (قسوة)وتعني الخشونة والصلابة والتحجر، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة، و يقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية، ولا تلين ولا تستسلم لها، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية). على أية حال، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح، لأنّ الرحابة والإتساع كناية عن الإستعداد للإستقبال، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناساً كثيرين، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء﴾ هو المطر ﴿فَسَلَكَهُ﴾ فأدخله ﴿يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾ عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾ بالماء ﴿زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ بخضرة وحمرة وصفرة وبياض ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ييبس ﴿فَتَرَاهُ﴾ بعد الخضرة ﴿مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا﴾ مكسرا فتاتا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾ بقدرة صانعه وحكمته وزوال الحياة الدنيا الشبيهة به.