أمّا المكافأتان الثانية والثّالثة اللتان يمنحهما الباريء عزّوجلّ للمصدقين، فيقول القرآن المجيد بشأنهما: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون)(3).
كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون الله سبحانه وتعالى ليكّفر عنهم أسوأ ما عملوا بظلّ لطفه، ويطهرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن جهة اُخرى يدعون الله ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معياراً للمكافأة، وأن يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.
إنّ ما يتّضح من الآيات الكريمة هو أنّ الله استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم وعفا عن أسوأ أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معياراً للمكافأة.
من البديهي، عندما يشمل العفو الألهي الزلاّت الكبيرة، فإنّ الزلات الصغيرة أولى بالشمول، لأنّ الزلات الكبيرة هي التي تقلق الإنسان أكثر من أيّ شيء آخر، ولهذا السبب فإنّ المؤمنين كثيراً ما يفكرون بها.
وثمة سؤال يطرح نفسه هنا: إذا كانت الآيات السابقة تخص الأنبياء والمؤمنين من أتباعهم، فكيف اقترف هؤلاء تلك الزلات الكبيرة؟
الجواب على هذا السؤال يتّضح من خلال الإنتباه إلى أنّه عندما ينسب عمل ما إلى مجموعة، فهذا لا يعني أنّ الجميع قاموا بذلك العمل، وإنّما يكفي أن تقوم به مجموعة صغيرة منهم، فمثلا عندما نقول: إن بني العباس خلفوا رسول الله (ص)من دون أيّ حق، فإنّ هذا لا يعني أنّ الكل اعتلوا كرسي الخلافة، وإنّما مجموعة منهم.
الآية المذكورة أعلاه تبيّن أنّ مجموعة من حملة الرسالة وأتباع نهجهم كانوا قد ارتكبوا بعض الأخطاء والزلاّت، وأنّ الباريء عزّوجلّ صفح عنهم وغفر لهم بسبب أعمالهم الصالحة والحسنة. على أيّة حال فإنّ ذكر الغفران والصفح قبل ذكر الثواب، يعود إلى هذا السبب، وهو أنّ عليهم في البداية أن يغتسلوا ويتطهروا، ومن ثمّ الورود الى مقام القرب الالهي. يجب عليهم في البداية أن يريحوا أنفسهم من العذاب الإلهي كي يتلذذوا بنعم الجنّة.
مسألة:
الكثير من المفسّرين المسلمين من الشيعة والسنة نقلوا الرّواية التالية بشأن تفسير هذه الآية، وهي أنّ النّبي(ص) هو المقصود في (والذي جاء بالصدق) وأن الإمام علي (ع)هو المقصود في (صدّق به).
المفسّر الإسلامي الكبير العلاّمة "الطبرسي" نقل ذلك في تفسيره (مجمع البيان) عن أهل البيت الأطهار، ونقلها كذلك أبو الفتوح الرازي في تفسير (روح الجنان) عن نفس المصدر السابق. كما نقلت مجموعة من المفسّرين السنة ذلك عن أبي هريرة نقلا عن رسول الله (ص)، وعن طرق اُخرى، ومن جملة من نقله العلاّمة ابن المغازلي في (المناقب) و (العلاّمة الگنجي) في (كفاية الطالب) والقرطبي في تفسيره والعلاّمة السيوطي في (الدر المنثور) وكذلك (الآلوسي) في (روح المعاني)(4).
ومثلما أشرنا من قبل فإنّ نقل مثل هذه التفاسير هو بيان أوضح المصاديق، ومن دون أيّ شكّ فإنّ الإمام عليّ(ع) يقف في مقدمة الصفّ الأوّل لأتباع النّبي(ص) والمصدّقين به، وإنّه هو أول من صدّق برسول الله (ص)، ولا يوجد أحد من العلماء من ينكر هذه الحقيقة.
والإعتراض الوحيد الذي صدر عن بعض المفسّرين هو أنّ الإمام علي(ع)آمن بالرّسول وكان عمره ما بين (10) إلى (12) عاماً، وأنّه لم يكن مكلّفاً في هذا السّن ولم يبلغ بعد سنّ الحلم.
هذا الكلام عجيب جدّاً، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا الإعتراض صحيحاً، في الوقت الذي قبل فيه رسول الله (ص) إسلام علي(ع)، وقال له بأنّه (وزيره) و (وصيه) وأكّد مراراً وتكراراً في كلماته على أنّ علياً هو (أول المؤمنين) أو (أوّلكم إسلاماً) وقد أوردنا في نهاية الآية (10) من سورة التوبة أدلة متعددة من كتب علماء أهل السنة وبصورة مفصلة.
﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ أي سيئه ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يعادل حسناتهم بأحسنها فيضاعف أجرها