التّفسير
في الشدائد يذكرون الله، ولكن... الآيات هنا تتحدث مرّة اُخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة اُخرى من صورهم القبيحة.
في البداية يقول (فإذا مس الإنسان ضرّ دعانا) فذلك الإنسان الذي كان - وفق ما جاء الآيات السابقة - يشمئز من ذكر اسم الله. نعم، هو نفسه يلجأ إلى ظلّ الله عندما يصيبه الضرّ ويتعرض للشدائد. لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضّل عليه الباريء عزّوجلّ ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكراً لهذه النعم، وزاعماً بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر (ثم إذا خولناه نعمة منّا قال إنّما أوتيته على علم)(1).
نظير هذا الكلام نقله القرآن في الآية (78) من سورة القصص عن لسان "قارون" عندما نصحه علماء بني إسرائيل بأن ينفق ممّا منّ الله به عليه في سبيل الله، إذ قال:(إنّما أوتيته على علم عندي).
إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارفة التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية، فهل أنّ هؤلاء اكتسبوا العلم الذي كان يدرّ عليهم الأموال الطائلة من ذاتهم؟ أم أنّه كان في ذاتهم منذ الأزل؟
بعض المفسّرين ذكروا احتمالا آخر لتفسير هذه العبارة، وقالوا: إنّ النعم التي منّ بها الباريء عزّوجلّ علينا إنّما منّ بها علينا لعلمه بلياقتنا واستحقاقنا لها.
ومع أنّ هذا الاحتمال وارد بشأن الآية مورد بحثنا، لكنّه غير وارد بشأن الآية الآنفة التي تحدثت عن قارون، خاصة مع وجود كلمة (عندي) وهذه أحد القرائن لترجيح التّفسير الأوّل للآية التي هي مورد البحث.
ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة، قائلا: (بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون).
فالهدف من إبتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثمّ إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.
هل ييأس الإنسان عند المصيبة ويغترّ ويطغى عند النعمة؟
هل أنّه يزداد تفكيراً بالله عزّوجلّ عندما يحاط بهذه النعم، أم أنّه يغرق في ملذات الدنيا؟
هل ينسى ذاته، أو أنّه يلتفت إلى نقاط ضعفه ويعود إلى ذكر الله أكثر؟
ممّا يؤسف له أنّ أكثر الناس مبتلون بالنسيان، وغير مطلعين على الحقائق التي تكررت مرات عديدة في آيات القرآن المجيد، وهي أنّ العزيز الحكيم يجعل الإنسان أحياناً محاطاً بالمشاكل والإبتلاءات الشديدة، وأحياناً يغدق عليه النعم، وذلك ليمتحنه ويرفع من شأنه وليعرفه بأن كلّ شيء في هذه الحياة هو من ا لله سبحانه وتعالى.
ومن الطبيعي أنّ الشدائد تهيء الأرضيه لتفتتح الفطرة، كما أنّ النعم مقدمة للمعرفة (وفي هذا الخصوص أوردنا بحثاً آخر في تّفسيرنا الأمثل في نهاية الآية (65) من سورة العنكبوت).
وممّا يدعوا إلى الإنتباه تأكيد الآية على كلمة (إنسان) التي عرفته بأنّه كثير النسيان والغرور، وهذه إشارة إلى الذين لم يتربوا وفق ما جاء في الشرائع والسنن الإلهية، والذين لم يكن لهم أيّ مربّ ومرشد.. الذين أطلقوا لشهواتهم العنان واستسلموا لأهوائهم، نعم فهؤلاء هم الذين يلجؤون إلى الباريء عزّوجلّ كلّما مسّهم الضرّ وكلمّا ابتلوا بالشدائد والمحن، ولكن عندما تهدأ أعاصير الحوادث ويشملهم لطف الباريء وعنايته، ينسونه وكأنّهم لم يدعوه إلى ضرّ مسّهم. ولمزيد من الإطلاع راجع موضوع: الإنسان في القرآن الكريم. في نهاية الآية (12) من سورة يونس.
﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ﴾ جنسه ﴿ضُرٌّ دَعَانَا﴾ ملتجأ عكس ما كان عليه من اشمئزازه من التوحيد واستبشاره بذكر الأصنام ولذا عطف بالفاء على وإذا ذكر الله وحده وما بينهما اعتراض ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا﴾ أعطيناه إنعاما ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ من الله باستحقاقي له أو مني بوجوه جلبه ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾ اختبار له أيشكر أم يكفر ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك.