لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
بعد طي هاتين المرحلتين "الإنابة" و "التسليم"، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون). وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث: الخطوة الأُولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى. الخطوة الثّانية: الإيمان بالله والإستسلام له. الخطوة الثّالثة: العمل الصالح. فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقأ لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب. أمّا بشأن المراد من (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزّوجلّ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات والمستحبات، مع الإنتباه إلى تدرّجها. وقال البعض: إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة، بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر (الله أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني). وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين. بحثان 1 - باب التوبة مفتوح للجميع من المشاكل التي تقف عائقاً في طريق بعض المسائل التربوبة، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة. هذا التفكير يبقى كابوساً مخفياً يرافقه كالظل، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة؟ فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته... والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيداً ما ذكرناه، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة. التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عندما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للإنفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين التائبين، حيث ورد (كمن ولدته أُمه). وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفاً التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي. ونقراً في رواية وردت عن رسول الله (ص): "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(2). كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر(ع)جاء فيه: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزىء"(3). ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط، لأنّ الباريء عزّوجلّ حكيم ولا يفعل شيئاً عبثاً، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لابدّ منه. ومن جهة اُخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة، وأن تحدث انقلاباً وتغيراً في داخله وذاته. ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء اُسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب. ومن ناحية ثالثة، يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن). 2 - اصحاب الأحمال الثقيلة بعض المفسّرين أوردوا أسباباً متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول. ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد، عندما قتل حمزة عمّ النّبي (ص) غدراً، وقد كان حمزة قائداً شجاعاً كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اُخرى: إنّه كان درعاً للرسول (ص). فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدئهم، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي، ولكنّه كان خائفاً من عدم قبول إسلامه، ولما أسلم قال له النّبي (ص): "أوحشي؟" قال: نعم، قال: "أخبرني كيف قتلت عمي" فأخبره، فبكى(ص)، وقال: "غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك" فلحق بالشام فمات في الخمر(4). وهنا تساءل أحدهم: هل أن هذه الآية تخص وحشياً فقط أم تشمل كلّ المسلمين، فأجاب رسول الله(ص): إنّها تشمل الجميع . ومنها قصة النباش - قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكياً فسلّم فردّ ع ثمّ قال: "ما يبكيك، يا معاذ؟" فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شاباً طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك. فقال النّبي (ص): "ادخل عليّ الشاب يا معاذ" فأدخله عليه فسلم فردّ ع قال: "ما يبكيك يا شاب؟" قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً، إن أخذني الله عزّوجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً. فقال رسول الله (ص): "هل أشركت بالله شيئاً؟". قال: أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئاً. قال: "أقتلت النفس التي حرّم الله؟". قال: لا. فقال النّبي(ص): "يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي". فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ. فقال النّبي(ص): "يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق". قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيه من الخلق. فقال النّبي(ص): "يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي". قال: فإنّها أعظم من ذلك. قال: فنظر النّبي(ص) إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: "ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟". فخّر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم. فقال النّبي(ص): "فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الربّ العظيم". قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبي(ص): "ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟". قال: بلى، أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي... ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فاذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين،... فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبداً فما ترى يا رسول الله. فقال النّبي(ص): تنحى عنّي يا فاسق; إنّي أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار!... فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّداً فيها، ولبس مسحاً وغل يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول... ثمّ قال: اللّهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك، وإن لم تستجب لي دعائي... فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه(ص) (والذين إذا فعلوا فاحشة...)(5). الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول، و إنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الإنتباه أكثر، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اُخرى: إن مثل أُولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوباً ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضى. وقد ذكر "الفخر الرازي" أسباباً اُخرى لنزول هذه الآيات إذ قال: إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!(6). ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ أي القرآن أو العزائم دون الرخص ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه أي لأن أو كراهة.