التّفسير
الأمر الإلهي الحاسم:
بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله... الآية الكريمة توضح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع، فتقول: (ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا).
صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدة والعدد، إلاّ أنّ ذلك لن يدوم إلاّ لفترة، فلا تغتر وتنخدع إذاً لتحركهم في البلاد وتنقلهم في المدن المختلفة،
واستعراضهم لقوّتهم: (فلا يغررك تقلبهم في البلاد).
إنّها أيّام تنقضي بين الكرّ والفرّ، ثمّ تنتهي هذه الضجة لتزول معها هذه المجموعة وتمحى تماماً، كما تزول الفقاعات من على سطح الماء، أو كما يتلاشى الرماد عند هبوب العواصف!
"يجادل" مشتقّة من "جدل" وهي في الأصل تعني لف الحبل وإحكامه، ثمّ عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كلّ شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.
ولكن ينبغي الإنتباه إلى أنّ كلمة (المجادلة) لا تعتبر مذمومة دائماً في اللغة العربية، بل تعتبر إيجابية ومطلوبة إذا كانت المجادلة في طريق الحق وتستند على المنطق، وتهدف إلى تبيين الحقائق وإرشاد الأشخاص الجهلة... أمّا إذا كانت على أُسس واهية من التعصب والجهل والغرور، وتستهدف خداع هذا وذاك، فتكون عند ذلك مذمومة.
القرآن الكريم استخدم كلمة (المجادلة) في كلا مورديها، إذ نقرأ في الآية (125) من سورة النحل قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن).
إلاّ أنّه في موارد اُخرى - كما في الآية أعلاه وفيما بعدها - وردت (المجادلة) لغرض الذم، وهناك بحث حول الجدال والمجادلة سنتعرض له فيما بعد إن شاء الله.
"تقلب" مشتقّة من "قلب" وتعني التغيير، و "تقلّب" هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضاً.
إنّ هدف الآية تحذير للرسول(ص) والمؤمنين به - في بداية البعثة - من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية أو القوّة السياسية والإجتماعية للكفار، ويعتبرونها دليلا على حقانيتهم أو سبباً لقوّتهم الحقيقية، إذ هناك الكثير منهم في تأريخ هذه الدنيا، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوّة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي، ليسقطوا كما تسقط الأوراق الخريفية الذابلة فيالعواصف الهوجاء.
إنّنا في عالم اليوم نشاهد الكفار والمستكبرين والظالمين وهم يقومون بشتى المحاولات، من زيارات ومؤتمرات وأحلاف وتكتّلات ومناورات عسكرية، وتوقيع لإتفاقات سياسية وعسكرية، واعتماد لوسائل القمع والإرهاب إزاء المستضعفين والمحرومين في العالم، ولكي يسلكوا من خلال ذلك طريقاً إلى تحقيق أهدافهم المشؤومة. لذلك ينبغي للمؤمنين أن يكونوا يقظين وحذرين حتى لا يروحوا ضحية هذه الأساليب القديمة وحتى لا يسكتهم الرعب والخوف فيفتنون بهذا الوضع.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن ما يطعن فيه ﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عنادا منهم وبطرا ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ من الشام واليمن للتجارات سالمين مترفين فإنهم وإن أمهلوا مأخوذون كأمثالهم المذكورين في ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ﴾ المتحزبين على الرسل كعاد وثمود وغيرهم ﴿مِن بَعْدِهِمْ﴾ بعد قوم نوح ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ ليهلكوه ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا﴾ ليزيلوا ﴿بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ﴾ بالتدمير عقوبة ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ تقرير أي هو في موقعه