التّفسير
اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص؟
تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن "غضب" الله تعالى على الكافرين، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين.
في البداية تقول الآية: (إنّ الّذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).
من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟
يبدو أن ملائكة العذاب ينادونهم بهذ النداء لتوبيخهم وفضحهم، في مقابل ما تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.
ويحتمل أن يكون هذا النداء من نوع التخاطب والتخاصم الذي يقوم بين الكفار في القيامة، لكن المعنى الأوّل أرجح كما يبدو، وعلى كلّ حال سينطلق هذا النداء يوم القيامة، كما أنّ الآيات اللاحقة شاهد على هذا المعنى.
"المقت" تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أن غضب الله تعالى على الكافرين هو أشد من عداوتهم لأنفسهم أمّا فيم يتعلق بمقت الكفار لأنفسهم، فهناك تفسيران:
الأوّل: يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد، فهم لم يهملوا مصابيح الهداية وحسب، بل عمدوا إلى تحطيمها. فهل ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.
وطبقاً لهذا التّفسير يكون قوله تعالى: (إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) بياناً لكيفية مقت وعداوة الكافرن أنفسهم.
الثّاني: أن يكون المقصود بغضبهم وعدائهم لأنفسهم هو أن تصيبهم حالة من الألم والندم الشديد عندما يشاهدون يوم القيامة نتيجة أعمالهم وما اقترفت أيديهم في هذه الدنيا، حيث ترتفع آهاتهم وصرخاتهم، ويعضون على أناملهم من الندم، ولات ساعة مندم يقول تعالى:(ويوم يعضّ الظالم على يديه)(1). ويتمنون أن يكونوا تراباً: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً)(2).
وفي ذلك اليوم تنفتح آفاق البصر: (فبصرك اليوم حديد)(3) و تنكشف الأسرار والحقائق الخفية: (يوم تبلى السرائر)(4). وفي ذلك اليوم تنشر الصحف وتكشف الأعمال: (وإذا الصحف نشرت)(5). وعندها تكون النتيجة: (كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)(6). لذلك سيلوم هؤلاء أنفسهم بشدة ويتنفرون منها ويبكون على مصيرهم.
وهنا يأتي النداء: (إنّ الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).
وطبقاً لهذا التّفسير تكون جملة: (إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) بياناً لدليل شدة الغضب الإلهي عليهم(7).
بالطبع فإن كلا التّفسيرين مناسب، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل بلحاظ بعض الأُمور - أرجح.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ﴾ يوم القيامة وقد مقتوا أنفسهم حين رأوا وبال أعمالهم ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ﴾ إياكم ﴿أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ الأمارة ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ في الدنيا.