لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الخاسرون الحقيقيون: هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة، وتذكر لهم ثلاث صفات: 1 - إنهم ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾. هؤلاء لهم مع الله عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الرّبوبية، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمرّدوا على أوامر الله، واتّبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم. طبيعة هذا العهد: يثار سؤال حول العهد المبرم بين الله والإنسان، فالعهد عقد ذو جانبين، وقد يقول قائل: متى أبرمت مع الله عهداً من العهود المَذكورة؟ الجواب على هذا السؤال يتضح لو عرفنا أن الله سبحانهأودع في أعماق النفس الإنسانية شعوراً خاصاً وقوى خاصة يستطيع بها أن يهتدي إلى الطريق الصحيح، ويتجنب مزالق الشيطان وأهواء النفس، ويستجيب لداعي الله. هذه القوى الفطرية يعبّر عنها القرآن بالعهد الإلهي، وهو في الحقيقة «عهد تكويني» لا تشريعي أو قانوني. يقول تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾؟!. وواضح أنّ الآية تشير إلى فطرة التوحيد العبودية والميل إلى الإِتجاه نحو التكامل في النفس الإنسانية. الدليل الآخر على هذا الإِتجاه في فهم العهد الإِلهي ما جاء في أول خطب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : حيث قال: «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ». بتعبير آخر: كل موهبة يمنحها الله للإِنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله والإِنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإِنسان أى يرى الحقائق، وموهبة الاُذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهبة له في مسير منحرف. الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهية، أو جميعها. 2 - الصفة الاُخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنهم ﴿... يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ...﴾. أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن القطع المذكور في الآية يعني قطع الرحم، لكن مفهوم الآية - في نظرة أعمق - أعم من ذلك، وما قطع الرحم إلاّ أحد مصاديقها، لأن الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لِكل إرتباط أمر الله به أن يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى الله، والإِرتباط بالله. ولا دليل على حصر الآية برابطة الرحم. بعض المفسرين ذهبوا إلى أن الآية تشير إلى قطع الإرتباط بالأنبياء والمؤمنين، وبعضهم فسّرها بالإرتباط بأئمة أهل البيت(عليهم السلام). وواضح أن هذه التفاسير تبيّن جزءً من المفهوم الكلي للآية. 3 - علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: ﴿... وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾. ومن الواضح أن يكون هؤلاء مفسدين، لأنهم نسوا الله وعصوه، وخلت نفوسهم من كل عاطفة إنسانية حتى تجاه أرحامهم، هؤلاء لايتحركون إلاّ على خط مصالحهم وأهدافهم الذاتية الدنيّة، ولا يهمّهم على هذا الطريق أن يعيثوا في الأرض فساداً، ويرتكبوا كل لون من الإِنحراف. وتؤكد الآية في الخاتمة أن ﴿أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. وأي خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الأنسان الرّاميّة لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والإنحراف؟! نعم، هؤلاء الفاسقون الذين خرجوا عن خط إطاعة الله ليس لهم مصير سوى الخسران. بحثان 1 - أهمية صلة الرحم في الإِسلام: الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل إرتباط أمر الله به أن يوصل، إلاّ أن الإِرتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة. لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودّد إلى الأهل والأقارب. ونهى بشدّة عن قطع الارتباط بالرحم. رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوّر أهمية صلة الرحم بقوله: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَعْمُرُ الدِّيارَ وَتَزِيدُ فِي الأَعْمَارِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهَا غَيْرَ أَخْيَارِ». وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) قال: «صِلْ رَحِمَكَ وَلَوْ بِشَرْبَةِ مَاء، وَأَفْضَلُ مَا يُوصَلُ بِهِ الرَّحِمُ كَفُّ الأَذى عَنْهَا» . الإِمام علي بن الحسين السّجاد (عليه السلام) يحذّر ولده من صحبة خمس مجموعات، إحداها قطاع الرحم، ويقول: «... وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةً الْقَاطِعِ لِرَحِمِهِ فَإِنّي وَجَدْتُهُ مَلْعُوناً في كِتَابِ اللهِ». ويقول سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنهُمُ اللهُ﴾. السبب في كل هذا التأكيد الإِسلامي على الرحم هو أن عملية إصلاح المجتمع وتقوية بنيته وصيانة مسيرة تكامله وعظمته في الحقول المادية والمعنوية، تفرض البدء بتقوية اللَّبنات الأساسية التي يتكون منها البناء الإِجتماعي، وعند استحكام اللَّبنات وتقويتها يتم إصلاح المجتمع تلقائيّاً. الإِسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإِسلامي القوي الشامخ، وأمر بإِصلاح الوحدات الإِجتماعية. والكائن الإِنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية إرتباط أفراد الأُسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم. وواضح أن المجتمع يزداد قوةً وعظمةً كلّما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الإِجتماعية الصغيرة المتمثلة بالأُسرة. وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: «صلة الرحم تعمر الديار». 2 - القطع بدل الوصل: ذكرت الآية الكريمة: أَنَّ الْفَاسِقينَ ﴿يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ وفي هذا الصدد يثار سؤال يقول: هل القطع ممكن قبل الوصل؟ والجواب: إن المقصود بالوصل استمرار الروابط التي أقرّها الله سبحانه بينه وبين عباده، أو بين عباده مع بعضهم بشكل طبيعي وفطري. بعبارة اُخرى، إن الله سبحانه أمر بالحفاظ على هذه الروابط الفطرية والطبيعية وبصيانتها، لكنّ المذنبين يقطعونها (تأمّل بدقة). ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد وصدق الرسل وما أخذ في عالم الذر من الإقرار لله بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولأهل بيته بالولاية ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي أحكامه ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من الأرحام والقرابات سيما صلة النبي ومودة ذي القربى ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ بسبب قطع ما في وصله نظام العالم وصلاحه ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان.