التّفسير
عظمة القرآن:
تذكر الرّوايات أنّ رسول الله(ص) كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد. ويقول بعضهم: بل هو كهانة. ويقول بعضهم: بل هو خطب.
وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّآم العرب يتحاكمون إليه في الأمور، وينشدونه الأشعاره فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لا يبرحون من مكّة، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان (القنطار: جلد ثور مملوء ذهباً) وكان من المستهزئين برسول الله(ص).
وفي يوم سأل أبوجهل الوليد بن المغيرة قائلا له:
يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمّد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟
فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله(ص) وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك.
قال(ص): ما هو بشعر، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.
فقال: اتل علىّ منهُ.
فقرأ عليه رسول الله (بسم الله الرحمن الرحيم) فلّما سمع (الوليد) الرحمن استهزأ فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن، قال: لا، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم.
ثم افتتح سورة "حم السجدة"، فلّما بلغ إلى قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فلمّا سمعه اقشعر جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.
فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا؟ وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً.
وغدا عليه أبو جهل فقال: يا عم، نكست برؤوسنا وفضحتنا.
قال: وما ذلك يا ابن أخ؟
قال: صبوت إلى دين محمّد.
قال: ما صبوت، وإني على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود.
قال أبوجهل: أشعر هو؟
قال: ما هو بشعر.
قال: فخطب هي؟
قال: إنّ الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضاً، له
طلاوة.
قال: فكهانة هي؟
قال: لا.
قال: فماهو؟
قال: دعني أفكّر فيه.
فلّما كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟
قال: قولوا هو سحر، فإنّه آخذ بقلوب الناس، فأنزل الله تعالى فيه: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً وبنين شهوداً) إلى قوله: (عليها تسعة عشر)(1)(2).
إنّ هذه الرّواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها، وذلك يظهر جانباً من جوانب العظمة في القرآن الكريم.
نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها(حم).
لقد تحدثنا كثيراً عن تفسير هذه الحروف، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة. أو أنّ (ح) إشارة إلى "حميد" و (م) إشارة إلى "مجيد" وحميد و مجيد هما من أسماء الله العظمى.
﴿حم﴾ إن كان مبتدأ فخبره.