لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهي أنّكم ستحلون ضيوفاً لدى الباريء عزّوجلّ وفي جنته الخالدة، وستقدم لكم كلّ النعم تماماً مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف: (نزلا من غفور رحيم). ملاحظات في طيات هذه الآيات المبينة، والتعابير القرآنية القصيرة البليغة ذات المعاني الكبيرة ; ثمّة ملاحظات دقيقة ولطيفة نقف عليها من خلال النقاط الآتية: 1 - هل نزول الملائكة على المؤمنين المستقيمين يتمّ أثناء الموت والانتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر، كما يحتمل ذلك بعض المفسّرين، أم أن نزولهم يكون في ثلاثة مواطن; عند (الموت) وعند (دخول القبر) وعند (الإحياء والبعث والنشور)، أو إنّ هذه البشائر تكون دائمة ومستمرة، وتتمّ بواسطة الإلهام المعنوي، حيث تستقر الحقائق في أعماق المؤمنين بالرغم من أنّها في لحظة الموت ولحظة الحشر تكون بشائر الملائكة أجلى وأوضح؟ يبدو أن المعنى الأخير أنسب، وذلك لعدم وجود قيد أو شرط في الآية. ويؤيد ذلك أنّ الملائكة تقول في البشارة الرّابعة: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وهذا دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء، إلاّ أنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ، بل يسمعون ذلك بأذان قلوبهم بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب. صحيح أنّ بعض الروايات قيدت نزول الملائكة وحضورهم عند الموت، إلاّ أن ثمّة روايات اُخرى اشارت إلى معنىً أوسع يشمل الحياة أيضاً(6). ويمكن أن نستنتج من مجموع الروايات أنّ ذكر خصوص الموت هو بعنوان المصداق لهذا المفهوم الواسع، ونعرف هنا أنّ التفاسير الواردة في الروايات غالباً ما توضح المصاديق. إنّ بشائر الملائكة ستشع في أرواح المؤمنين وأعماق ذوي الاستقامة حتى تهبهم القوّة والقدرة على مواجهة أعاصير الحياة ومشقاتها، وتثبّت أقدامهم من السقوط والإنحراف. 2 - قال بعض المفسّرين في التفريق بين الخوف والحزن، أنّ (الخوف) يختص بالحوادث التي تثير القلق لدى الإنسان لكنّها تقع في المستقبل، فيبقى الإنسان قلقاً حذراً إزاءها ومنتظر وقوعها. أمّا (الحزن) فهو ممّا يختص بالحوادث المؤسفة التي وقعت في الماضي. وعلى أساس هذا المعنى يأتي خطاب الملائكة: أن لا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم، سواء في هذه الدنيا أو عند الموت أو في مراحل البعث، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية أو الأبناء الذين سيبقون بعدكم. وتقديم (الخوف) على (الحزن) قد يكون بسبب أنّ المؤمن أكثر ما يكون قلقاً إزاء حوادث المستقبل، خاصةً ما يتعلق منها بالحشر والجزاء واليوم الآخر. وقال البعض أيضاً: إنّ (الخوف) من العذاب، بينما (الحزن) على ما فات من الثواب، والملائكة تقوم بزرع الأمل عندهم في الحالتين بواسطة الألطاف الإلهية والمواهب والعطايا الربانية. 3 - قوله تعالى: (كنتم توعدون) هو تعبير جامع تتداعى فيه كلّ صفات الجنّة في ذهن المؤمنين ذوي الاستقامة، بمعنى أنّ الجنّة كلّها وبكل ما سمعتم عنها وعن نعيمها مسخّرة لكم، من حورها وقصورها إلى مواهبها الكثيرة وعطاياها المعنوية التي لا يدركها الإنسان، ولم تخطر ببال أحد: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)(7). 4 - في البشارة الرّابعة تعرّف الملائكة نفسها بأنّها تلتزم جانب المؤمنين في الدنيا والآخرة; تقوم بنصرهم وإنزال السكينة عليهم، وهي صورة تقابل الآيات السابقة من هذه السورة المباركة عندما وصفت أعداء الله من الكفار من المعاندين والمكذبين، وكيف أنّهم يتأوهون من عذا ب النّار ويمتلئون غيظاً وغضباً على من أضلّهم في الحياة الدنيا، ويريدون الانتقام منهم. 5 - الفرق بين البشارة الخامسة والسادسة، أنّ في الخامسة يقال لهم: إنّ ما ترغبونه وتريدونه موجود هناك، فإن مجرّد رغبتكم في شي ما يتزامن مع مثوله أمامكم. ولكن قوله تعالى في (تشتهي أنفسكم): يستخدم للإشارة إلى الرغبات واللذات المادية، وإنّ قوله تعالى في (ما تدعون): يشير إلى ما تريدونه من المواهب المعنوية والعطايا والملذات الروحانية. وخلاصة الكلام: أنّ كلّ شيء موجود هناك، سواء كان مادياً أم معنوياً. 6 - "نزل" تعني كما أشرنا سابقاً، ما يقدمه المضيف إلى ضيفه، بينما فسّرها البعض بأوّل ما يقدّم إلى الضيف. والتعبير في كلّ الأحوال يكشف عن أن جميع المؤمنين ذوي الاستقامة هم ضيوف الله ونزل رحمته وجنته ومائدته. 7 - إنّ التدقيق في هذه البشائر ووعود الحق من قبل الباريء جلّ وعلا، والتي تعطى للمؤمنين بواسطة ملائكة الله الكرام، سوف تحرك في وجود الإنسان الدوافع نحو الإيمان والاستقامة، تجعل الروح البشرية تتعشق السير في هذا الطريق. وفي ظل هذه الأجواء المضيئة بالطاعة والبشرى، استطاع الإسلام العزيز أن يصنع من عرب الجاهلية مجموعة نموذجية لا تتوانى عن الإيثار والتضحية بالغالي والعزيز في سبيل منعة الإسلام والمسلمين وانتصارهم على كلّ المشاكل والعقبات. وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ "الاستقامة" مثلها مثل "العمل الصالح" هي ثمرة لشجرة الإيمان، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى، مثلما تعمق الاستقامة في طريق الحق والإيمان. وهكذا يكون لهذين العاملين أثران متبادلان متقابلان. والذي نستفيده، من الآيات القرآنية الأُخرى، أنّ الإيمان والاستقامة لا يجلبان البركات المعنوية والروحية وحسب، وإنّما يرفل الإنسان من خلالهما بالبركات المادية التي تسود عالمنا هذا، إذ نقرأ في الآية (16) من سورة الجن قول الله تعالى: (وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) وستشملهم فيما يشملهم سنوات ملأى بالخير والعطاء والبركة. ﴿نُزُلًا﴾ أي مهيئا ﴿مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ فيكون جليلا هنيئا.