لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
بعد بيان الدعوة إلى الله وأوصاف الدعاة إلى اللّه، شرحت الآيات أُسلوب الدعوة وطريقتها، فقال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)(1). في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الأفتراء والاستهزاء والسخرية والكلام البذيء وأنواع الضغوط والظلم; يجب أن يكون سلاحكم - أنتم الدعاةـ التقوى الطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبّة. إنّ المذهب الحق يستفيد من هذه الوسائل، بعكس المذاهب المصطنعة الباطلة. وبالرغم من أنّ (الحسنة) و(السيئة) تنطويان على مفهومين واسعين، إذ تشمل الحسنة كلّ إحسان وجميل وخير وبركة، والسيئة تشمل كلّ انحراف وقبح وعذاب، إلاّ أنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيئة والحسنة، الذي يختص بأساليب الدعوة. لكن بعض المفسّرين فسّر الحسنة بمعنى الإسلام والتوحيد، والسيئة بمعنى الشرك والكفر. وقال البعض: (الحسنة) هي الأعمال الصالحة. و(السيئة) الأعمال القبيحة. وهناك من قال: إنّ (الحسنة) هي الصفات الإنسانية النبيلة، كالصبر والحلم والمداراة والعفو، بينما السيئة بمعنى الغضب والجهل والخشونة. ولكن التّفسير الأوّل هو الأفضل حسب الظاهر. في حديث عن الإمام الصادق أنّه(ع) قال في تفسير الآية أعلاه:(الحسنة التقية، السيئة الأذاعة)(2). وطبعاً فان هذا الحديث الشريف ناظر الى الموارد التي تكون فيها الاذاعة سبباً في اتلاف الطاقات والكوادر الجيدة وافشاء الخطط للاعداء. ثم تضيف الآية: (ادفع بالتي هي أحسن). إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابل الإساءة بالإحسان، فلا ترد الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح، لأنّ هذا أسلوب من همّه الانتقام، ثمّ إنّ هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر. وتشيرالآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير، فتقول: إنّ هذا التعامل سيقود إلى: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم). إنّ ما يبيّنه القرآن هنا، مضافاً إلى ما يشبهه في الآية (96) من سورة المؤمنين في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) يعتبر من أهم وأبرز أساليب الدعوة، خصوصاً حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين. ويؤيد ذلك آخر ما توصلت إليه البحوث والدراسات في علم النفس. لأنّ كلّ من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط; وأحياناً يكون جواب السيئة الواحدة عدّة سيئات. أمّا عندما يرى المسيء أنّ من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب، وإنّما يقابلها بالحسنة، عندها سيحدث التغيير في وجوده، وسيؤثر ذلك على ضميره بشدّة فيوقظه، وستحدث ثورة في أعماقه، سيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير والأكبار إلى من أساء إليه. وهنا ستزول الأحقاد والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحبّ والمودّة. ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ هذا الأمر لا يمثل قانوناً دائماً، وإنّما هو صفة غالبة، لأنّ هناك أقلية تحاول أن تسيء الاستفادة من هذا الأسلوب، فما لم ينزل بها ما تستحق من عقاب فإنّها لا تترك أعمالها الخاطئة. ولكن في نفس الوقت الذي نستخدم العقوبة والشدة ضدّ هذه الأقلية، علينا أن لا نغفل عن أنّ القانون المتحكم بالأكثرية هو قانون: (ادفع السيئة بالحسنة). لذلك رأينا أنّ رسول الإسلام(ص) والقادة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يستفيدون دائماً من هذا الأسلوب القرآني العظيم، ففي فتح مكّة مثلا كان الأعداء - وحتى الأصدقاءـ ينتظرون أن تسفك الدماء وتؤخذ الثارات من الكفار والمشركين والمنافقين الذين أذاقوا المؤمنين ألوان الأذى والعذاب في مكّة وخارجها، من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار (اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً) لكن ماكان من رسول الله(ص) وتنفيذاً لأخلاقية (ادفع السيئة بالحسنة) إلاّ أن عفا عن الجميع وأطلق كلمته المشهورة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). ثمّ أمر(ص) أن يستبدل الشعار الإنتقامي بشعار آخر يفيض إحساناً وكرماً هو: (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله قريشاً)(3). لقد أحدث هذا الموقف النبوي الكريم عاصفة في أرض مشركي مكّة حتى أنّه على حدّ وصف كتاب الله تعالى بدأوا: (يدخلون في دين الله أفواجاً)(4). لكن برغم ذلك، نرى أنّ النّبي(ص) استثنى بعض الأشخاص من العفو العام هذا، كما نقله أصحاب السيرة، لأنّهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي الكريم الذي عبّر فيه رسول الله(ص) عن خلق الإسلام ومنطق النّبيين حينما قال: (لا أقول لكم إلاّ كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)(5). (ولي) هنا بمعنى الصديق. و(حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي، وإذا قيل لعرق جسم الإنسان (حميمَ) فذلك لحرارته، ولهذا السبب يطلق اسم (الحمّام)على أماكن الغسل، ويقال أيضاً للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص (حميم) والآية تقصد هذا المعنى. وضروري أن نشير إلى أنّ قوله تعالى: (كأنّه ولي حميم) حتى وإن لم تكن تعني أنّ الشخص لم يكن كذلك حقاً، إلا أنّ ظاهره سيكون كذلك على الأقل. إنّ هذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين و الأعداء ليس بالأمر العادي السهل، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبين الأسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة، حيث يقول تعالى: (وما يلقاها إلاّ الذين صبروا)(6). ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ في الجزاء ﴿ادْفَعْ﴾ السيئة ﴿بِالَّتِي﴾ بالخصلة التي ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾ كالجهل بالحلم والإساءة بالعفو ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ محب قريب.