التّفسير
السّجدة لله تعالى:
تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد، ودلائل النبوة وعظمة القرآن، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام.
تبدأ أوّلا من قضية التوحيد، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات الآفاق(1): (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) فالليل وظلمته للراحة، والنهار وضوءه للحركة.
وهذان التوأمان يقومان بإدارة عجلة حياة الناس بشكل متناوب ومنظم، بحيث لو كان أحدهما دائمياً أو استمر لمدة أطول، فستصاب جميع الكائنات بالفناء، لذا فإنّ الحياة تنعدم على سطح القمر حيث تعادل لياليه (15) ليلة أرضية ونهاره بهذا المقدار أيضاً.
إنّ لياليه المظلمة الباردة تجعل كلّ شيء جامداً، أمّا نهاره الطويل الحار فإنّهُ يحرق كلّ شيء، لذلك لا يستطيع الإنسان وكائنات أرضنا أن تعيش على القمر.
أمّا الشمس فهي مصدر كلّ البركات المادية في منظومتنا، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر، ونمو النباتات ونضج الفواكه، وحتى ألوان الورود الجميلة، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.
القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.
ولعلّ البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات والبركات الآنفة الذكر، فتاهوا في عالم الأسباب، ولم يستطيعوا الوصول إلى مسبّب الأسباب.
ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة: (لاتسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ إن كنتم إيّاه تعبدون)(2).
فماذا لا تتوجهو بالسجود والعبادة إلى خالق الشمس والقمر؟
ولماذا تعبدون كائنات هي نفسها خاضعة لقوانين الخلقة ونظام الوجود، ولها شروق وغروب وتخضع للتغيرات؟
إنّ السجود لا ينبغي إلاّ لله خالق هذه الموجودات! إنّ خالق هذه الموجودات ومودع النظم والقوانين فيها لا يغرب ولا يأفل ولا تمتد يد التغيير إلى محضر كبريائه عزّوجلّ.
وبهذا الشكل تنفي الآيات أحد الفروع الواسعة لانتشار الشرك وعبادة الأصنام المتمثلة في عبادة الكائنات الطبيعية النافعة، فينبغي للجميع أن يبحثوا عن علة العلل وأن لا يتوقفوا عند المعلول; نعم ينبغي البحث عن خالق هذه الموجودات!
إنّ هذه الآية تستدل - في الواقع - على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكم بالشمس والقمر والليل والنهار، وإن حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلا على وجوب عبادته.
قوله تعالى: (إن كنتم إيّاه تعبدون) فيه إشارة إلى ملاحظة مؤدّاها: إذا كنتم تريدون عبادة الخالق فعليكم إلغاء غيره من الشركاء في العبادة، لأنّ عبادته لا تكون إلى جانب عبادة غيره.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ لأنهما مخلوقان مثلكم ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ تخصونه بالعبادة.