ثم تذكر الآية صفة اُخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) لأنّه: (تنزيل من حكيم حميد).
أفعال الله عزوجل لا تكون إلاّ وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.
لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل...) إلاّ أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه، من أي طريق كان، ومهما كان الأُسلوب، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشيء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.
لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.
لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره،، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضاً.
لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلا.
إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (التاسعة) من سورة "الحجر" حيث قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(2).
ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى: (من بين يديه ومن خلفه) كناية عن جميع الجوانب والجهات، بمعنى أنهُ لن يصيبهُ البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل، فان قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.
"الباطل" كما يرى الراغب في مفرداته: هو ما يقابل الحق، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحياناً أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.
ويطلق على الشجاع بـ "البطل" لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجاً.
لكن "باطل" في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين.
والتعبير الأخير في الآية (تنزيل من حكيم حميد) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.
أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف، ولا ينسخ أو ينقض، أو تمتد إليه يد التحريف، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة، أو تلك التي يكشفها المستقبل.
وأخيراً، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (التاسعة) من سورة "الحجر".
سؤال:
قد يقال: إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه، أي كلّ ما يتصف بأنّه "المخالف الحق" فإننا في تفسير الآية (وكذلك المفسّرين الأخرين) فسّرناه بمعنى "المبطل" فكيف يتسق ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأُسلوب القرآني، فالقرآن لا يقول: سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) (ينبغي الإنتباه إلى ضمير جملة: يأتيه).
ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ من جهة من الجهات أو مما فيه من إخباره بما مضى ويأتي ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ﴾ في أفعاله ﴿حَمِيدٍ﴾ على إفضاله.