وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته).
ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: (أأعجمي وعربي).
أو يقولون: كتاب أعجمي لأُمّة تنطق بالعربية؟!
والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن، إلاّ أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه).
إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا: هو السحر والأسطورة، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم، وإذا جاءهم مزيجاً من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون(4)!!
وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من "عجمة" على وزن "لقمة" وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق "عجم" على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق "أعجم" على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أو غير عربي.
بناءاً على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.
ثم يخاطب القرآن الرّسول (ص) بالقول: (قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء).
أمّا لغيرهم: (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أيّ "ثقل" ولذلك لا يدركونه.
ثم إنّه: (وهو عليهم عمى)(5). أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد: (أُولئك ينادون من مكان بعيد).
ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده، فيجب أن تكون هناك عين تبصر، كذلك يقال في مسألة التعلّم، حيثُ لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الارض. طيبة أم خبيثة!!
فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.
أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل من كتاب الله تعالى، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!
ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم: أنت تسمع من قريب.
ويقولون لمن لا يفهم: أنت تنادى من بعيد(6).
"وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية، يمكن مراجعته ذيل الآية (82) من سورة الإسراء."
الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله(ص) والمؤمنين معه وتقول لهم: إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه).
وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجّة عليهم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم) أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.
إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور، وبغية إتمام الحجّة عليهم، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة، وهي تجري في قومك أيضاً.
لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد: (وإنّهم لفي شك منهُ مريب).
"مريب" من "ريب" بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى الآية: إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.
بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى(ع)، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول(7).
في الآية الأخيرة - من المجموعة - نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس، وقد أكّده القرآن مراراً. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني.
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ﴾ أي الذكر ﴿قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ كما قالوا اقتراحا: هلا أنزل بلغة العجم ﴿لَّقَالُوا لَوْلَا﴾ هلا ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ بينت حتى نفهمها ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ أقرآن عجمي ورسول أو مخاطب عربي إنكار ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى﴾ من الحيرة ﴿وَشِفَاء﴾ من الشك ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هو ﴿فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ لتصاممهم عن استماعه ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ لتعامي قلوبهم عن تدبره ﴿أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي هم كمن ينادى من بعيد لا يسمع ولا يفهم النداء.