الآية الأخيرة تتضمّن الخطاب الأخير لهؤلاء، وتبيّن لهم - بوضوح - الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل، حيث تخاطب النّبي(ص) فتقول: (قل أرأيتم إن كانَ من عندَ الله ثمّ كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد)(10).
ومن الواضح أن هذا الكلام إنّما يقال للاشخاص الذين لا ينفع معهم أيّ دليل منطقي لشدّة عنادهم وتعصبهم. فالآية تقول لهؤلاء: إذا كنتم ترفضون حقانية القرآن والتوحيد ووجود عالم ما بعد الموت وتصرون عليه، فأنتم لا تملكون حتماً دليلا قاطعاً على هذا الرفض، لذا يبقى ثمّة احتمال في أن تكون دعوة القرآن وقضية المعاد حقيقة موجودة، عندها عليكم أن تتصوروا المصير الأسود الموحش الذي ينتظركم لعنادكم وضلالكم ومعارضتكم الشديدة إزاء الدين الإلهي.
إنّه نفس الأُسلوب الذي نقرأ عنهُ في محاججة أئمّة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد، كما نرى ذلك واضحاً في الحادثة التي ينقلها العلاّمة الكليني في "الكافي" حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادق(ع) وابن أبي العوجاء.
فمن المعروف أنّ "عبد الكريم بن أبي العوجاء" كان من ملاحدة عصره ودهرييها، وقد حضر الموسم (الحج) أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق في مجالس حوار، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنهُ إلى الإسلام، ولكنّ ابن أبي العوجاء لم يسلم، وقد صرح الإمام(ع) بأن سبب ذلك هو إنّه أعمى ولذلك لا يسلم.
والحادثة موضع الشاهد هنا، هي أنّ الإمام بضُر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟
فاجاب ابن أبي العوجاء: عادة الجسد، وسنة البلد، ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة!
فقال لهُ الإمام: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم(11).
وعندما أراد أن يبدأ بالمناقشة والجدال قال له الإمام(ع): لا جدال في الحج.
ثم قال لهُ: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول، وهو كما نقول نجونا وهلكت.
فأقبل عبد الكريم على من معه وقال: وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني،فردوه فمات(12).
مسألة:
يثار هنا السؤال الآتي: لقد قرأنا في الآيات التي نبحثها قوله تعالى: (إذا مسّهُ الشر فذو دعاء عريض) ولكنّا نقرأ في سورة "الإسراء" قوله تعالى: (وإذا مسّهّ الشرّ كان يؤوسا)(13).
والسؤال هنا كيف نوفق بين الآيتين، إذ المعروف أنّ الدعاء دليل الأمل، في حين تتحدث الآية الأُخرى عن يأس أمثال هؤلاء؟
أجاب بعض المفسّرين على هذا السؤال بتقسيم الناس إلى مجموعتين، مجموعة تيأس نهائياً عندما تصاب بالشر والبلاء، واُخرى تصر على الدعاء برغم ما بها من فزع وجزع(14).
البعض الآخر قال: إنّ اليأس يكون من تأمُّل الخير أو دفع الشر عن طريق الأسباب المادية العادية، وهذا لا ينافي أن يلجأ الإنسان إلى الله بالدعاء(15).
ويحتمل أن تكون الإجابة من خلال القول بأنّ المقصود من (ذو دعاء عريض) هو ليس الطلب من الله، بل الجزع والفزع الكثير، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية (20) من سورة المعارج: (إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسّهُ الشر جزوعاً).
أو أن الآيتين تعبّران عن حالتين، إذ أنّ هؤلاء الأفراد يقومون أولا بالدعاء وطلب الخير من النّبي(ص) وهم فزعون جزعون، ثمّ لا تمرّ فترة قصيرة إلاّ ويصابون باليأس الذي يستوعب وجودهم كلّه.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أخبروني ﴿إِن كَانَ﴾ القرآن ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ كما أقول ﴿ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ﴾ عنادا ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ﴾ خلاف عن الحق ﴿بَعِيدٍ﴾ عنه أي لا أحد أضل منكم فوضع الظاهر موضعه بيانا لحالهم.