لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الاساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة، إذ يقول تعالى عنهم: (ألا إنّهم في مرية من لقاء ربّهم). ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما كانت، ومهما بلغت. إنّ حجب الغفلة والغرور تهيمن على هؤلاء فتنسيهم لقاء الله، ممّا يؤدي بهم إلى السقوط عن مصاف الإنسانية. ولكنّهم يجب أن يعلموا: (ألا إنّهُ بكل شيء محيط). إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم الله، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر. "مرية" على وزن "جزية" و"قرية" تعني التردُّد في اتخاذ القرار، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة، والكلمة مأخوذة في الأصل من "مريت الناقة" بمعنى عصر ثدي الناقة بعد حَلبها أملا بوجود بقايا الحليب فيه، ولأنّ هذا العمل مع الشك والتردُّد، فقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى. وعندما نسمع إطلاق كلمة "المراء" على "المجادلة" فذلك لما يحاوله الإنسان من إخراج ما في ذهن الطرف الآخر. والآية - في هذا الجزء منها - رد على شبهات الكفار بخصوص المعاد، فهؤلاء يقولون: كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟ ومن يستطيع أن يجمع أجزاء الإنسان؟ والأكثر من ذلك: من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تأريخ البشرية؟ القرآن يجيب على كلّ ذلك بالقول: كيف يُمكن للخالق المحيط بكل شيء أنْ لا تكون هذه الأمور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟ ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شيء، هو تدبيره لكل هذه الأمور، فكيف يجوز لهُ أن لا يعلم بأُمور ما خلقَ ودبّر؟ بعض المفسّرين اعتبر أنّ الآية تختص بالتوحيد وليسَ بالمعاد، حيث يقول العلامة الطباطبائي في ذلك: "الذي يفيده السياق أنّ في الآية تنبيهاً على أنّهم لا ينتفعون بالإحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيداً على كلّ شيء، وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل، لأنّهم في مرية وشك من لقاء ربّهم، وهو تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شيء من خلقه"(3). ولكن هذا التّفسير مُستبعد نظراً لأنّ تعبير "لقاء الله" عادةً ما يأتي للكناية على يوم القيامة. بحوث أوّلا: التوحيد بين دليل "النظم" ودليل "الصدّيقين" أشار الفلاسفة في بحوثهم حول التوحيد إلى الأهمية الكبيرة لنوعين من الإستدلال على الخالق جلَّ وعلا: أحدهما الإستدلال من خلال "النظم". والآخر دليل "الصديقين". ودليل "النظم" كما يظهر من اسمه، يبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره ودقائقه، ليرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذي أوجد ذلك ودبره، والقرآن الكريم مليء بهذا النوع من الإستدلال، فهو يذكر نماذج كثيرة عن آيات الله في السماء والأرض وفي مظاهر الحياة ونظمها وما يمور فيها من كائنات، وينتهي من هذا الطريق إلى إثبات وجود الصانع المدَبّر (جلَّ وعلا). إنّ كلّ شخص يستطيع استيعاب هذا النوع من الإستدلال مهما كان مستواه وعلى قدر ما يجمل من علم وإدراك، إذ يستفيد منه أكبر العلماء على قدر استعداده وثقافته استيعابه، في نفس الوقت الذي يستفيد منهُ الأمّي وغير المتعلّم وغير المطّلع على فنون العلوم والمعرفة. أمّا دليل "الصديقين" فهو نوع من الإستدلال يقوم بالوصول إلى (الذات) بواسطة (الذات) نفسها، ومثل هؤلاء يعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده. بعبارة اُخرى: إنّ الممكنات والمخلوقات لا تكون هنا واسطة لإثبات وجوده، بل إنّ ذاته بنفسه تدل على ذاته، ويكون تعالى مصداقاً لـ "يا من دلَّ على ذاته بذاته"(4) ومصداقاً أيضاً لـ(شهدالله أنّه لا إله إلا هو)(5). إنّ هذا الإستدلال استدلال فلسفي معقد بحيث لا يستطيع أن يحيط بكنهه وبأعماقه إلاّ من يحيط بمبادئه، وليسَ من قصدنا هنا تبسيط الدليل فذلك شأن الكتب الفلسفية، وإنّما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض المفسّرين من الذين يعتقدون بأنّ مطلع الآية في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) يتضمّن إشارة إلى دليل "النظم" والعلة والمعلول. بينما اعتبروا نهاية الآية في قوله تعالى: (أو لم يكف بربك أنّه على كلِّ شيء شهيد) إشارة إلى دليل "الصديقين". ولكن ليسَ ثمّة قرائن واضحة من نفس الآية تؤيد فكرة هذا الإِستنتاج! ثانياً: حقيقة إحاطة الله بكل شيء يجب أن لا نتصور - مطلقاً - أنّ إحاطة الخالق جلَّ وعلا بالموجودات والكائنات تشبه إحاطة الهواء الذي يلف الكرة الأرضية ويغلِّفها، لأنّ مثل هذه الإحاطة هي دليل المحدودية، بل الإحاطة المعنية هنا تتضمن معنى دقيقاً ولطيفاً يتمثل في ارتباط كلّ الكائنات والموجودات بالذات المقدسة. وبعبارة اُخرى: لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به، بحيث لو زال هذا الإرتباط لحظة واحدة فلا يبقى شيء منها. إنّ هذه الإحاطة نتلمّس كنهها وحقيقتها في الكلمات الواردة عن أمير المؤمنين(ع) إذ يقول: "مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة". وقد نلمح هذا المعنى بعينه فيما ذكره الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة ذي المحتوى العميق، إذ يقول فيه: "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً"(6). ثالثاً: آيات الآفاق والأنفس لو أُتيح للإنسان أن ينكر كلّ ما يستطيع، فهو لا يستطيع أن ينكر وجود نظام دقيق قائم يعم بنسقه عالم الوجود، فأحياناً يقضي عالم معين كلّ عمره بالدرس والمطالعة حول تركيب العين وأسرارها أو المخ أو القلب، ويقرأ الكتب الكثيرة ممّا كتب حول الموضوع، إلاّ أنّه أخيراً يعترف بأنّ هناك أسراراً كثيرة حول موضوعه لا تزال مجهولة. وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ علوم علماء اليوم، ليست هي سوى نتيجة متراكمة لجهود ودراسات آلاف العلماء عبر تأريخ البشر. إنّ العالم اليوم ينطق في كلّ جزء من أجزائه بوجود قدرة أزلية تكمن وراءه، فكل شيء يدل على الصانع لمدبِّر، وأي نبات ينبت على الأرض يهتف "وحده لا شريك له". نستطيع هنا أن نترك الحديث عن القضايا العلمية المعقدة، ونتجه إلى ظواهر عادية ممّا ينتشر حولنا، لنتلمّس فيها أدلة واضحة على إثبات الصانع العظيم. ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين: المثال الأول: الجميع يعرف أنّ هناك تقوّس في أخمص قدم كلّ إنسان بحيث لا يبدو الأمر ملفتاً للنظر مطلقاً، ولكنَّا نسمع في معاملات الفحص الطبي الخاص بأداء الخدمة العسكرية، أنّ الشاب الذي يفتقد مثل هذا التقوّس يعفى من الخدمة العسكرية أو يحال إلى الأعمال المكتبية الإدارية. إنّ الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة، ولا يملك الإستعداد الكافي لأداء الخدمة العسكرية التي تستدعي المشي الطويل. وهكذا كلّ شيء في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقّة ونظم، حتى التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان! المثال الثّاني: في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوّارة منتظمة ودقيقة الإفراز، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان تماماً، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادراً على الرؤية أو التحدّث أو مضغ الطعام وبلعه. بعبارة اُخرى: إنّ الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهراً! فبدون أن يكون سطح العين رطباً بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرّد ملامستها لأجسام صغيرة، بل ستمنعها هذه الأجسام عن الحركة. كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطباً، فإنّ الكلام يصبح أمراً مستحيلا بالنسبة له، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافاً. وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائماً حتى يسهل دخول الهواء ومروره باستمرار. والدقيق هنا أنّ ماء العين ينزل عبر قنوات خاصة من العين إلى الأنف للمحافظة على رطوبته، وإذا قدِّر لهذا المجرى أن يغلق ليوم واحداً فقط - كما نشاهد ذلك في حال بعض المرضى - فإن الدموع ستسيل على الوجه بشكل دائم وسيكون لها منظر مزعج مؤذ. ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم، فقلّة إفرازاتها تزيد من جفاف اللسان والفم والبلعوم، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم إلى الخارج. ثم إنَّ المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضدَّ الأجسام الغريبة بمجرّد دخولها إلى العين. بينما يفتقد اللعاب لأي طعم، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص للأطعمة، بينما تساعد الأملاح الموجودة فيه على هضم الطعام. وإذا تدبرنا في طبيعة التكوين الكيمياوي والفيزيائي لسوائل هذه الغدد وأنظمتها الدقيقة ومنافعها، نتبيّن عندها أنَّ وجودها لا يمكن أن يكون مجرّد صدفة عمياء لا تعقل ولا تعي، بل هي من آيات الله الأنفسية ومصداق لقوله الحق جلَّ وعلا: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحق). وفي إشارة عابرة لكنّها كبيرة الدلالة والمعنى، يتحدث الإمام الصادق في الحديث المعروف بتوحيد المفضَّل، الذي هو غني جدّاً في الإشارة إلى الآيات الآفاقية والأنفسية لله في الوجود، يقول(ع): "أي مفضل! تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنّه جعل يجري جرياناً دائماً إلى الفم، ليبل الحلق واللهوات فلا يجف، فإنّ هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان، ثمّ كان لا يستطيع أن يسيغ طعاماً إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة"(7). فإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإنّ روحه بؤرة للعجائب بحيث حيّرت جميع العلماء. وثمّة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعاً"أنّهُ الحق". وهنا يلتقي صوتنا - بدون إرادة منّاـ مع صوت الحسين(ع)، ونقول: "عميت عين لا تراك"!! آمين ربّ العالمين نهاية سورة فصّلت ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ﴾ شك ﴿مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ﴾ بالبعث والجزاء ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾ علما وقدرة فلا يفوته شيء.