التّفسير
الشرك يجرّ العالم نحو الدمار:
تناولت الآيات السابقة بحوثاً في المعاد والملك والحكم والربوبيّة، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك، وإستعرضت جانباً من إنحرافات المشركين.
وردّتها عليهم بالأدلّة الساطعة، قائلة: (ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله).
إنّ الإعتقاد بوجود ابن لله لا ينحصر في المسيحيين الذين يرون النّبي عيسى (ع) إبناً حقيقيّاً له! فقد كان المشركون يرون الملائكة بنات لله، ولعلّ المسيحيين أخذوا هذه الفكرة من المشركين القدماء، وعلى أساس أنّ الولد جزء من الأب، فلذلك اعتقدوا بأنّ الملائكة أو المسيح (ع) لهم حصّة من الاُلوهيّة، وهذا أوضح مظهر للشرك.
ثمّ بيّنت الآية بطلان الشرك: أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم، فسيكون لكلّ إله مخلوقاته الخاصّة به يحكم عليها ويدبّر اُمورها.
وسيكون تبعاً لذلك أنظمة متعدّدة للعالم، لأنّ كلّ واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص (إذاً لذهب كلّ إله بما خلق) وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا العالم.
(ولعلا بعضهم على بعض) وهذه نتيجة محتومة لكلّ صراع، إذ يسعى كلّ طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سبباً آخر لتفكّك النظام الموحّد السائد في العالم.
وجاء في ختام الآية تقديس لله سبحانه (سبحان الله عمّا يصفون).
وزبدة الكلام ما نجده بوضوح من سيادة نظام موحّد لساحة الوجود كلّه.
فالقوانين السائدة لهذا العالم في أرضه وسمائه واحدة، والنظام الحاكم لذرّة واحدة هو ذاته يحكم المجموعة الشمسيّة المنظومات الكبيرة، ولو اُتيحت لنا صورة مكبّرة لذرّة واحدة لحصّلنا على شكل المنظومة الشمسيّة، والعكس صحيح.
وقد برهن العلماء في تجاربهم في مختلف العلوم، بإستخدام أدقّ الأجهزة وأحدثها على وحدة النظام السائد لهذا العالم كلّه.
هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى إنّ الإختلاف والتباين يلازمان التعدّد دوماً.
فلو تشابهت صفات شيئين تمام التشابه لكانا شيئاً واحداً، إذ لا معنى لثنائيتهما عندئذ، ولو فرضنا لهذا العالم آلهة عديدة لوقع أثر هذا التعدّد على مخلوقات العالم والنظام الحاكم له، ولأنتفت وحدة نظام الخلق.
مضافاً إلى أنّ كلّ موجود لابدّ أن يسعى لإستكمال وجوده إلاّ الوجود الكامل من كلّ جهة فلا معنى للتكامل في وجوده حينئذ، فلو فرضنا وجود مناطق خاصّة لكلّ إله من هذه الآلهة المزعومة، وطبعاً لا يكون لكلّ منها كمال مطلق، ومن الطبيعي أيضاً أنّها سوف تسعى لإستكمال ذاتها، وتحاول ضمّ بقيّة المناطق إلى حوزتها، وهذا السعي للتكامل والتنافس في الإقتدار مدعاة لوقوع العالم فريسة بين مخالب الناقصين الباحثين عن السيطرة على غيرهم، والنتيجة هي فساد العالم ودماره.
وبهذا تكون كلتا الجملتين في الآية إشارة إلى دليل منطقي واحد، ولا تصل النوبة إلى حصر الجملة في جهة إقناعية وليست منطقية.
السؤال الوحيد الباقي في هذا المورد هو أنّ البرهان المذكور يصحّ فيما لو فرضنا أنّ الآلهة تسعى للتغلّب والسيطرة المطلقة، أمّا لو فرضناها حكيمة وعالمة، فما المانع من أنّ تدير العالم بالتشاور فيما بينها؟
لقد أجبنا عن هذا السؤال في تفسيرنا للآية الثّانية والعشرين من سورة النساء، في بحث برهان التمانع، ولا حاجة لتكراره هاهنا.
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ﴾ لتنزهه عن مجانسة خلق ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ﴾ منهم ﴿بِمَا خَلَقَ﴾ وانفرد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بالتغالب كفعل ملوك الدنيا ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من الولد والشريك.