التّفسير
لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين!
أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله، والجواب هو: إنّ الرؤية والحضور في موقف ما ضروري قبل كل شيء لإثبات ادعاء ما، في حين لا يقوى أي عابد وثن أن يدّعي أنّه كان حاضراً حين خلق الملائكة، وأنّه رأى كيفيّة ذلك الخلق بعينه.
وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع، وتسلك مسالك أُخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة، فتتعرض أوّلاً - وبصورة مختصرة - لأحد الأدلة الواهية لهؤلاء ثمّ تجيب عليه، فتقول: (وقالوا لو شاء الرحمـن ما عبدناهم).
إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر، وأن كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله، وكل ما نفعله فهو برضاه أو أنّه لو لم يكن راضياً عن أعمالنا وعقائدنا لوجب أن ينهانا عنها، ولما لم ينهنا عنها فإنّ ذلك دليل على رضاه.
الحقيقة، أنّ هؤلاء اختلقوا خرافات جديدة من أجل توجيه عقائدهم الخرافية الفاسدة الأولى، وافتروا أكاذيب جديدة لإثبات أكاذيبهم الأولى، وأيّاً من الإِحتمالين - أعلاه - كان مرادهم، فهو فاسد من الأساس.
صحيح أنّ كل شيء في عالم الوجود لا يكون إلاّ بإذن الله تعالى، إلاّ أنّ هذا لا يعني الجبر، إذ يجب أن لا ننسى أنّ الله سبحانه هو الذي أراد لنا أن نكون مختارين وأحراراً في اختيارنا وتصرفنا، ليختبرنا ويربينا.
وصحيح أيضاً أنّه يجب أن ينهى الله سبحانه عباده عن الباطل، لكن لا يمكن إنكار أنّ جميع الأنبياء قد تصدّوا لردع الناس عن كل نوع من أنواع الشرك والإِزدواجيّة في العبادة.
إضافة إلى ذلك، فإنّ عقل الإِنسان السليم ينكر هذه الخرافات أيضاً أليس العقل - هو رسول الله الداخلي - في أعماق الإِنسان؟!
وتجيب الآية في النهاية بجملة قصيرة على هذا الإِستدلال الواهي لعبدة الأصنام، فتقول: (مالهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون).
إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم، بل هم - ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين - يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد، فيقولون: إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا! مع علمهم بأنّهم يكذبون، وأن هذه ذريعة ليس إلاّ، ولذلك فإن أحداً لو اغتصبهم حقّاً فإنّهم غير مستعدين أبداً لغض النظر عن معاقبته مطلقاً، ولا يقولون: إنّه كان مجبراً على عمله هذا!
"يخرصون" من الخرص، وهو في الأصل بمعنى التخمين، وأطلقت هذه الكلمة أوّلاً على تخمين مقدار الفاكهة، ثمّ أطلقت على الحدس والتخمين، ولما كان الحدس والتخمين يخطيء أحياناً ولا يطابق الواقع، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، و"يخرصون" في هذه الآية من هذا القبيل.
وعلى أيّة حال، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأن عبدة الأوثان كانوا يستدلون - مراراً - بمسألة المشيئة الإِلهيّة من أجل توجيه خرافاتهم، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا قد حرّموا على أنفسهم أشياء وأحلّوا أُخرى، ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه، كما جاء ذلك في الآية (148) من سورة الأنعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء).
وتكرر هذا المعنى في الآية (35) من سورة النحل أيضاً: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء).
وقد كذّبهم القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام، حيث يقول: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) ويصرح في ذيل آية سورة النحل: (فهل على الرسل إلاّ البلاغ) ؟!
وفي ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين والكذب كما رأينا، وكلها ترجع في الحقيقة إلى أساس ومصدر واحد.
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ﴾ أن لا نعبد الملائكة ﴿مَا عَبَدْنَاهُم﴾ فإنما عبدناهم بمشيئته كأنهم كانوا جبرية أو أشعرية ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ﴾ المقول ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ مستند إلى حجة ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ يكذبون فيه.