لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولم يكن إبراهيم (ع) من أنصار أصل التوحيد، ومحاربة كل اشكال الشرك طوال حياته وحسب، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد، كما تبيّن ذلك الآية التالية إذ تقول: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) (3). والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدّث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم (ع) التوحيديّة، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام - وهم موسى (ع) وعيسى (ع) ومحمّد (ص) - من ذرّيته، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب. صحيح أنّ أنبياء آخرين قبل إبراهيم (ع) - كنوح (ع) - قد حاربوا الشرك والوثنيّة، ودعوا البشر إلى التوحيد، إلاّ أنّ الذي منح هذه الكلمة الإستقرار والثبات، ورفع رايتها في كلّ مكان، كان إبراهيم (ع) محطّم الأصنام. فهو (ع) لم يسعَ لإستمرار خطّ التوحيد في زمانه وحسب، بل إنّه طلب استمرار هذا الأمر من الله سبحانه في أدعيته إذ قال: (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) (4). ثمّة تفسير آخر، وهو: إنّ الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه، فيكون معنى الجملة: إنّ الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم. غير أنّ رجوع الضمير إلى إبراهيم (ع) - وهو التّفسير الأوّل يبدو أنسب، لأنّ الجمل السابقة تتحدّث عن إبراهيم، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة أعمال إبراهيم، خاصّة وأنّه قد أكّد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم، وإنّ إبراهيم كان مصرّاً على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله، كما نقرأ في الآيتين (131)، (132) من سورة البقرة: (إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين * ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون). والتصوّر بأنّ (جعل) يعني الخلق، وأنّه مختصّ بالله سبحانه، تصوّر خاطىء، لأنّ (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضاً، وفي القرآن نماذج كثيرة لذلك، فمثلاً عبّر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته، بالجعل: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) (5). اتّضح ممّا قلناه أنّ ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة (لا إله إلاّ الله) ويستفاد هذا من جملة: (إنّني براء ممّا تعبدون) التي تخبر عن مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة. وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيت (ع) اعتبار مرجع الضمير إلى مسألة الإِمامة، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعاً، أي إنّ الله سبحانه قد جعل مسألة الإِمامة مستمرّة في ذريّة إبراهيم (ع)، كما يستفاد من الآية (124) من سورة البقرة، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم: (إنّي جاعلك للناس إماماً) طلب إبراهيم (ع) أن يكون أبناؤه أئمّة أيضاً، فاستجاب الله دعاءه، إلاّ في الذين ظلموا وتلوّثوا بالمعصية والجور: (قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين). إلاّ أنّ الإِشكال الذي يتبادر لأوّل وهلة هو أنّه لا كلام عن الإِمامة في الآية مورد البحث، اللهمّ إلاّ أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى، لأنّ هداية النّبي (ص) والأئمّة (ع) شعاع من هداية الله المطلقة، وحقيقة الهداية والإِمامة واحدة. والأفضل من ذلك أن يقال: إنّ مسألة الإِمامة مندرجة في كلمة التوحيد، لأنّ للتوحيد فروعاً أحدها التوحيد في الحاكميّة والولاية والقيادة، ونحن نعلم أنّ الأئمّة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه، لا أنّهم مستقلّون بأنفسهم، وبهذا فإنّ هذه الرّوايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام لـ (جعلها كلمة باقية) ولهذا فإنّه لا منافاة مع التّفسير الذي ذكرناه في البداية. (فتأمّل!) (6). والجدير بالملاحظة هنا: هو أنّ المفسّرين قد احتملوا عدّة احتمالات في تفسير (في عقبه) ففسّرها البعض بكلّ ذريّة إبراهيم وأسرته، واعتبرها آخرون خاصّة بقوم إبراهيم وأمّته، وفسّرها جماعة بآل محمّد (ع) إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ لها معنى واسعاً يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا، والتّفسير بآل محمّد (ع) من قبيل بيان المصداق الواضح لها. والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة، وهو: في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب الله مشركي مكّة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: (فانتقمنا منهم) ؟ فتقول الآية مجيبة: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين) فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النّبي العظيم محمّد (ص) بهدايتهم. وبتعبير آخر، فإنّ جملة (لعلهم يرجعون) في الآية السابقة توحي بأنّ الهدف من مساعي إبراهيم (ع) الحثيثة كان رجوع كل ذرّيته إلى خط التوحيد، في حين أن العرب كانت تدعي أنّها من ذرية إبراهيم (ع) ورغم ذلك لم ترجع، إلاّ أنّ الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النّبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم. إلاّ أنّ العجيب أنّه: (ولما جاءهم الحقّ قالوا هذا سحر وإنّا به كافرون)! نعم... لقد عدّوا القرآن المجيد سحراً، والنّبي الأكرم (ص) ساحراً، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإنّ عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون. ﴿وَجَعَلَهَا﴾ أي الله أو إبراهيم الكلمة التي قالها ﴿كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ من الشرك إلى التوحيد.