التّفسير
الذين غالوا في المسيح:
مرت الإِشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح (ع) في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.
تقول الآية أوّلاً: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) وبهذا فقد كانت "البينات" - أي آيات الله والمعجزات - رأسمال عيسى، إذ كانت تبين حقانيته من جانب، وتبين من جانب آخر الحقائق المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.
ويصف عيسى (ع) محتوى دعوته بـ "الحكمة" في عبارته، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه، ثمّ أُطلقت على كل العقائد الحقّة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإِنسان من أنواع الإِنحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإن للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل "الحكمة العلمية" و"الحكمة العملية".
ولهذه الحكمة - إضافة إلى ما مرّ - هدف آخر، وهو رفع الإِختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح (ع) يؤكّد على هذه المسألة.
وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين، وهو: لماذا يقول: (قد جئتكم بالحكمة ولأُبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) ولم لا يبيّن الجميع؟
وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، وأنسبها هو:
إنّ الإِختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثراً في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية، ومنها ما يكون في الأُمور غير المصيرية، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات، وكيفية الأفلاك والنجوم، وماهية روح الإِنسان، وحقيقة الحياة، وأمثال ذلك.
ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الإِختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإِنسان مطلقاً.
ويحتمل أيضاً أن تبيان بعض الإِختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء، أي إنّهم سيوفقون أخيراً في حل بعض هذه الإِختلافات، أمّا حلّ جميع الإِختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الإِختلافات وانتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من سورة النحل: (وليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
وقد جاء هذا المعنى في الآيات، 55 - آل عمران، 48 - المائدة، 164 - الأنعام، 69 - الحج، وغيرها (1).
وتضيف الآية في النهاية: (فاتقوا الله وأطيعون).
﴿وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات والشرائع ﴿قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ﴾ بالنبوة والإنجيل ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ من أمر الدين والدنيا ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾.