لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التالية توضح هذا الأمر، فتقول: (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة). "المبارك" من مادة بركة، وهي الربح والمنفعة والخلود والدوام، فأي ليلة هذه التي تكون مبدأ الخيرات، ومنبع الإحسان والعطايا الدائمة؟ لقد فسّرها أغلب المفسّرين بليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي تغيرت فيها مقدرات البشر بنزول القرآن الكريم... تلك الليلة التي تقدر فيها مصائر الخلائق... نعم، لقد نزل القرآن على قلب النّبي المطهر في ليلة حاسمة مصيرية. وتجدر الإشارة إلى أنّ ظاهر الآية هو أنّ القرآن كله قد نزل في ليلة القدر. أمّا ما هو الهدف الأساس من نزوله؟ نهاية الآية أشارت إليه إذ قالت: (إنّا كنّا منذرين) فإن سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين، وكان إرسال نبيّ الإسلام (ص) بهذا الكتاب المبين آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة. صحيح أنّ الأنبياء (ع) ينذرون من جانب، ويبشرون من جانب آخر، لكن لما كان أساس دعوتهم هو مواجهة الظالمين والمجرمين ومحاربتهم، كان أغلب كلامهم عن الإِنذار والتخويف. نزول القرآن الدفعي والتدريجي: 1 - نحن نعلم أن القرآن الكريم نزل على مدى ثلاث و عشرين سنة - وهي فترة نبوةّ النّبي (ص) إضافة إلى أن لمحتوى القرآن ارتباطاً وعلاقة بالحوادث المختلفة التي وقعت في حياة النبي (ص) والمسلمين طوال هذه الـ 23 سنة، بحيث أنها إذا فصلت عن القرآن الكريم فسيكون غير مفهوم، وإذا كان الحال كذلك فكيف نزل القرآن الكريم كاملاً في ليلة القدر؟ وفي معرض الإِجابة على هذا السؤال، ذهب البعض هذا المعنى ببداية نزول القرآن، وبناء على هذا فلا مانع من أن تكون بداية نزوله في ليلة القدر، وينزل الباقي خلال 23 سنة. غير أن هذا التّفسير - و كما قلنا - لا ينسجم مع ظاهر الآية مورد البحث، ومع آيات أخرى في القرآن المجيد. وللاجابة على هذا السؤال يجب الانتباه إلى أننا نقرأ في هذا الآية (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) من جهة، ومن جهة أخرى جاء في الآية (185) من سورة البقرة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ومن جهة ثاًلثة نقرأ في سورة القدر (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فيستفاد جيداً من مجموع هذه الآيات أن الليلة المباركة في هذه الآية إشارة إلى ليلة القدر التي هي من ليالي شهر رمضان المبارك. وإضافة إلى ما مر، فإنه يستفاد من آيات عديدة أن النبي (ص) كان عالماً بالقرآن قبل نزوله التدريجي، كالآية (114) من سورة طه (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه). وجاء في الآية (6) من سورة القيامة (لا تحرك به لسانك لتعجل به). من مجموع هذه الآيات يمكن الإستنتاج أنه كان للقرآن نزولان: الأوّل: نزوله دفعة واحدة، حيث نزل من الله سبحانه على قلب النبي (ص) الطاهر في ليلة القدر من شهر رمضان. والثّاني: النّزول التدريجي، حيث نزل على مدى 23 سنة بحسب الظروف والحوادث والإِحتياجات. والشاهد الآخر لهذا الكلام أن بعض الروايات قد عبرت بالإنزال، و بعضها الآخر بالنّزول، والذي يفهم من متون اللغة أن التنزيل يستعمل في الموارد التي ينزل فيها الشيء تدريجياً ومتفرقاً، أما الإِنزال فله معنى واسع يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة.(3) والطريف أنّ كل الآيات المذكورة التي تتحدث عن نزول القرآن في ليلة القدر و شهر رمضان قد عبرت بالإِنزال، وهو يتوافق مع النّزول دفعة واحدة، في حين عُبر بالتنزيل فقط في الموارد التي دار الكلام فيها حول النّزول التدريجي للقرآن. لكن، كيف كان هذا النّزول جملة على قلب النبي (ص)؟هل كان على هئية هذا القرآن الذي بين أيدينا بآياته وسورة المختلفة، أم أنّ مفاهيمه وحقائقه قد نزلت بصورة مختصرة جامعة؟ ليس الأمر واضحاً بدقّة، بل القدر المتيقن الذي نفهمه من القرائن - أعلاه - أن هذا القرآن قد نزل دفعة واحدة في ليلة واحدة على قلب النبي (ص) مرّة، ونزل على مدى 23 سنة بصورة تدريجية مرّة أخرى. والشاهد الآخر لهذا الكلام، أنّ للتعبير بالقرآن - في الآية أعلاه - ظهوراً في مجموع القرآن. صحيح أنّ كلمة القرآن تطلق على كل القرآن وجزئه، لكن لا يمكن إنكار أن ظاهر هذه الكلمة هو مجموع القرآن عند عدم وجود قرينة أخرى معها. والتي فسر بها البعض هذه الآية بأنها بداية نزول القرآن، وقالوا: إنّ أوّل آيات القرآن نزلت في شهر رمضان و ليلة القدر، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات. وأضعف منه قول القائل: لما كانت سورة الحمد - التي هي خلاصة لمجموع القرآن - قد نزلت في ليلة القدر، فقد عُبر بـ (إنّا أنزلناه في ليلة القدر). إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد نزل في ليلة القدر. الشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير علي بن إبراهيم. عن الإِمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) أنّهم قالوا في تفسير (إنا أنزلناه في ليلة المباركة): "هي ليلة القدر، أنزل الله عزَّوجلَّ القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله في طول عشرين سنة".(4) (التفتوا جيداً إلى أن الرواية قد عبرت عن النّزول جملة واحدة بـ (أنزل) وعن النّزول التدريجي بـ (نزل). وأين هو "البيت المعمور"؟ صرحت روايات عديدة - سيأتي تفصيلها في ذيل الآية (4) من سورة الطور، إن شاء الله تعالى - بأنه بيت في السماوات بمحاذاة الكعبة، وهو محل عبادة الملائكة، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. لكن في أي سماء هو؟ الرّوايات مختلفة، ففي كثير منها أنه في السماء الرابعة، وفي بعضها أنه في السماء الأولى - السماء الدنيا - وجاء في بعضها أنه في السماء السابعة. ونطالع في الحديث الذي نقله العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الطور عن علي (ع): "هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة، تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبداً"(5). وعلى أية حال، فإنّ نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر لا ينافي علم النّبي (ص) به مطلقاً، فإنّه (ص) لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي هو مكنون علم الله، إلاّ أنّه عالم بالعوالم الأُخرى. وبتعبير آخر، فإن ما استفدناه و فهمناه من الآيات السابقة، بأن القرآن نزل على النّبي (ص) مرتين: نزولا دفعياً في ليلة القدر، ونزولا تدريجياً طوال 23 عاماً، لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول: إنّه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور، لأن قلب النّبي (ص) مطلع على البيت المعمور. وقد اتضح من خلال ما قيل في الجواب عن هذا السؤال، الإجابة عن سؤال آخر يقول: إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر، فكيف كانت بداية بعثة النّبي (ص) في السابع والعشرين من شهر رجب طبقاً للروايات المشهورة؟ حيث كان لنزوله في رمضان صفة الجمع والكلية، في حين أن أوّل آياته نزلت في 27 رجب، كبداية للنزول التدريجي، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ هي ليلة القدر ابتدأ فيها إنزاله أو أنزل فيها جملة من اللوح إلى السماء الدنيا ثم أنزل على النبي نجوما وبوركت لذلك ولنزول الرحمة وقسم النعم وإجابة الدعاء فيها ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ فلذا أنزلناه.