لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).(2) "البطش" هو تناول الشيء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للإِنتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة. والخلاصة: أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم، ولا مفرّ لهم منها. "منتقمون" من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الإنتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الإنتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة. ملاحظة ما المراد من الدخان المبين؟ هناك أقوال بين المفسّرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات كتعبير عن العذاب الإِلهي، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان: 1 - إنّه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر النّبي (ص) لأنّه لعنهم ودعا عليهم قال: "اللهم سنين كسني يوسف". وبعد ذلك أصاب مكّة قحط شديد، حتى أنّهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عموداً من الدخان من شدة الجوع والعطش، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام الحيوانات الميتة. فأتوا إلى النبي (ص) وقالوا: يا محمّد، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك! لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن. فدعا النبي (ص) فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة الوفيرة، لكنّهم لم يعتبروا بذلك، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى.(3) طبقاً لهذا التّفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى - أي العقوبة الشديدة - لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة. وطبقاً لهذا التّفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة، بل إن السماء قد بدت للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب المجاز، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة. وقال البعض: إنّ الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء الذي يعم ويغلب.(4) ويعتقد بعض آخر أنّه حين القحط وقلّة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار، وقد عُبر هنا عن هذه الحالة بالدخان، لأن المطر يُنزل بالغبار إلى الأرض فيصفو الأفق.(5) ومع كل هذه الصفات، فإنّ استعمال كلمة الدخان هنا مجازاً طبقاً لهذا التّفسير. 2 - إن المراد من "الدخان المبين" هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين. عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم، ويطلبون رفع العذاب والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية، لكن أيديهم ترد في أفواههم. وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الدخان معناه الحقيقي، ويكون مضمون هذه الآيات هو نفس ما ورد في آيات القرآن الأُخرى، وهو أنّ المجرمين والكافرين يرجون وهم على أعتاب القيامة أو فيها - رفع العذاب عنهم، والرجوع إلى الدنيا، لكن ذلك لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم. (6) الإِشكال الوحيد الذي يرد على هذا التّفسير أنّه لا ينسجم مع جملة (إنّا كاشفوا العذاب قليلا إنّكم عائدون) لأنّ العذاب الإِلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية. أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية - وإن كان ذلك يخالف الظاهر - فسيرتفع الإشكال حينئذ، لأن معنى الآية يصبح: كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب فإنّهم يعودون إلى طريقتهم الأولى، وهذا في الواقع شبيه بالآية (28) من سورة الأنعام (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه). اضافة إلى أنّ تفسير "البطشة الكبرى" بأحداث يوم بدر، يبدو بعيداً عن الصواب، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة (7) مع الآية تماماً. والشاهد الآخر للتفسير الثّاني هو الروايات الواردة عن النّبي الأكرم (ص) والتي تفسّر الدخان بالدخان الذي سيملا العالم على أعتاب قيام القيامة، كالرواية التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبي (ص) بأنّه ذكر أربع علامات لاقتراب القيامة: الأولى ظهور الدجال، والأُخرى نزول عيسى (ع)، والثالثة النّار التي تظهر من أرض عدن، والدّخان. فسأل حذيفة: يا رسول الله، وما الدّخان؟ فتلا رسول الله (ص) (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلة، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأمّا الكافر فبمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" (8). وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله (ص): "إنّ ربّكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" (9) وقد قدمنا توضيحاً كافياً حول دابة الأرض في ذيل الآية (82) من سورة النمل. وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الحذري عن النّبي الأكرم (ص).(10) ويلاحظ نظير هذه التعبيرات، بصورة أكثر تفصيلا، في الروايات الواردة عن طرق أهل البيت (ع)، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين علي (ع)، أن رسول الله (ص) قال: "عشر قبل الساعة لابدّ منها: السفياني، والدجال، والدخان، والدّابة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر".(11) ومن مجموع ما قيل، نستنتج أن التّفسير الثّاني هو الأنسب. ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ يوم القيامة أو يوم بدر ﴿إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾.