بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه).
فقد كرّمكم إلى درجة أنّ سخر لكم كلّ موجودات العالم، وجعلها في خدمتكم ولتأمين مصالحكم ومنافعكم، فالشمس والقمر، والرياح والمطر، والجبال والوديان، والغابات والصحاري، والنباتات والحيوانات، والمعادن والمنابع الغنية التي تحت الأرض، وبالجملة فإنّه أمر كلّ هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم، ومطيعة لأمركم، ومنفذة لإرادتكم، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه، ولا تذهلوا في سكرة الغفلة عنه.
ومما يستحق الإنتباه أنّه يقول: (جميعاً منه) (1) فإذا كانت كلّ النعم منه، وهو خالقها وربها ومدبرها جميعاً، فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه!! إنّه يتحدث مع عباده بكلّ لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، وأُخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كلّ ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.
وقد أوردنا بحثاً مفصلاً حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات 31 - 33 من سورة إبراهيم.
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ أي خلقها لانتفاعكم ﴿مِّنْهُ﴾ حال أي سخرها كائنة منه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها.