أمّا الآية التالية فإنّه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها، إذ تقول: (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)، فكل العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق، وأن يحكم العدل والحق كلّ مكان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون الخلقة؟
من الطبيعي أنّه يجب أن يتمتع أُولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون الحق والعدالة هذا، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله سبحانه، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون القانون طعمة للنّار المحرقة، ومحطاً لغضب الله عزَّ وجلّ، وهذا ما تقتضيه العدالة.
ومن هنا يتّضح أنّ العدالة لا تعني المساواة، بل العدالة أن يحصل كلّ فرد على ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.
وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟
غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عندما يضرب صفحاً عن أوامر الله سبحانه، ويتبع ما تمليه عليه شهواته، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّاً، فقد عبد هواه، وهذا عين معنى العبادة، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو عبادة أحبار اليهود، فيقول القرآن - مثلاً - في الآية (60) من سورة يس: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان).
ويقول في الآية (31) من سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: "أما والله ما صاموا لهم، ولا صلوا، ولكنّهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فاتبعوهم، وعبدوهم من حيث لا يشعرون" (3).
غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش، الذين إذا ما عشقوا شيئاً وأحبوه صنعوا على صورته صنماً ثمّ عبدوه وعظموه، وكلما رأوا شيئاً آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني، وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه (4).
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ ومقتضاه أن لا يساوي الكافر المؤمن ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ عطف على بالحق لأنه بمعنى العلة أي ليعدل ولتجزى ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُون﴾ في الجزاء.