التّفسير
أضل الناس:
كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع الله العزيز الحكيم، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأنّ من له أهلية الأُلوهية هو خالق العالم ومدبره، وهاتان الصفتان قد جمعتا في الذات المقدسة.
ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النّبي (ص) وتقول: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات).
إذا كنتم تقرون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً، ولا في خلق الشمسِ والقمر والنجوم وموجودات العالم العلوي، وتقولون بصراحة بأن الله هو خالقها جميعاً (1)، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟
وإذا قلتم - على سبيل الفرض ـ: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين فـ (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إنّ كنتم صادقين).
وخلاصة القول، فإنّ الدليل إمّا أن يكون نقلياً عن طريق الوحي السماوي، أو عقلياً منطقياً، أو بشهادة العلماء وتقريرهم، أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام، وغير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة، ولم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم، ومن هنا يتبيّن أنّ دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة، والأوهام الكاذبة.
بناءً على هذا، فإنّ جملة (أروني ماذا خلقوا من الأرض...) إشارة إلى دليل العقل، وجملة (ائتوني بكتاب من قبل هذا) إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير بـ (أثارة من علم) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين (2).
وقد ذكر علماء اللغة والمفسّرون عدةّ معان لكلمة "أثارة" - على وزن حلاوة - فمنها: بقية الشيء، الرواية، العلامة.
لكنّ الظاهر أنّها تعود إلى معنى واحد، وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده.
وقد وردت مثل هذه المناظرة والمحاكمة مع الوثنيين في الآية (40) من سورة فاطر، حيث تقول: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً).
وممّا يلفت النظر أنّه يقول في مورد الأرض: (ماذا خلقوا من الأرض) أمّا في مورد السماء فيقول: (أم لهم شرك في السماوات) أي إنّ الكلام في الموردين عن الإشتراك، لأنّ الشرك في العبادة يجب أن ينشأ من الشرك في الخالقية وتدبير النشأة.
وهنا يطرح سؤال، وهو: إذا كان المشركون يعتقدون - عادةً - أنّ أمر الخلق مختص بالله سبحانه، فلماذا يطالبون بأحد هذه الأدلة الثالثة؟
ويمكن الإجابة بأنّ هذه المطالبة موجهة إلى فئة قليلة بين عبدة الأوثان، يحتمل أنّهم كانوا يقولون باشتراك الأصنام في الخلق، أو أنّها طرحت على سبيل الفرض، أي إنّكم إذا ظننتم يوماً أنّ الأصنام شريكة في خلق العالم، فاعلموا أن لا دليل لكم على ذلك، لا من النقل ولا من العقل.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ من الأصنام ﴿أَرُونِي﴾ تأكيد ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ شركة في خلقهما أي إنهم لم يخلقوا شيئا فكيف يستحقون العبادة ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا﴾ القرآن الناطق بالتوحيد ﴿أَوْ أَثَارَةٍ﴾ بقية ﴿مِّنْ عِلْمٍ﴾ تؤثر عن الأولين بصحة دعواكم أنها شركاء الله ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم.