لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الزهد والإدخار للآخرة: تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: (ويوم يعرض الذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...) (1). نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلاّ التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين. (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال. بحوث 1 - تقول هذه الآية: إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة، وقد ورد نظير هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأُخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين: (وعرضنا جهنّم للكافرين عرضاً) (2). لذلك قال بعض المفسّرين: إنّ في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحدِّ ذاته عقاب وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله (3). وقال البعض: إنّ في العبارة نوع قلب، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك. لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب، فيقول سبحانه: (هل امتلأت) فتقول: (هل من مزيد) (4). والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجهاً لوجه، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما، فيمكن القول في هذه الصورة: إنّ الكافرين يعرضون على النّار، كما تعرض عليهم، وكلا التعبيرين صحيح. وعلى أية حال، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره "الطبرسي" في مجمع البيان، بل إنّ هذا العرض بحدِّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له. 2 - إنّ جملة: (أذهبتم طيّباتكم) تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير بـ "أذهبتم" لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها. ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمراً مذموماً قبيحاً، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها. وممّا يلفت الإنتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلاّ في هذه الآية من القرآن الكريم، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحياناً عن لذات الدنيا ويعرض عنها، أو أنّه لا يأخذ منها إلاّ ما يقوّم به صلبه، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته. غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الإلتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعاً، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم، بل يحملون معهم أحمالاً من الأوزار، ولهؤلاء يقول القرآن: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا). وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة: أنفقتم طيبات ما رُزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا، ولم تنفقوها في مرضاة الله (5). 3 - للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط، إلاّ أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقاً لا غير. 4 - إنّ التعبير بـ (عذاب الهون) بمثابة ردّ فعل لإستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة. 5 - لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الإستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين (6). 6 - إنّ التعبير بـ (غير الحق) لا يعني أنّ الإستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير. 7 - زهد الأئمة العظماء لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث، ومن جملتها: جاء في حديث أنّ عمر أتى يوماً رسول الله (ص) في مشربة أُم إبراهيم - وهو موضع قرب المدينة - وكان مضطجعاً على حصير من الخوص، وجزء من بدنه الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلّم وجلس، وقال: أنت نبيّ الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير، وأنت على هذا الحال؟! فقال (ص): "أُولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الإنقطاع، وإنّما أخرت لنا طيباتنا" (7). ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) أنّه أُتي يوماً بحلوى، فامتنع من تناولها، فقالوا: أتراها حراماً؟ قال: "لا، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه، ثمّ تلا هذه الآية: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...) (8). وجاء في حديث آخر: "أنّ أمير المؤمنين (ع) إشتهى كبداً مشوية على خبزة لينة، فأقام حولاً يشتهيها، وذُكر ذلك للحسن (ع) وهو صائم يوماً من الأيّام فصنعها له، فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه، لا تقرأ صحيفتنا غداً: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) (9). ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ يدخلونها وقيل تعرض هي عليهم فقلبت مبالغة يقال لهم ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ لذاتكم ﴿فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ باشتغالكم بها ﴿وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا﴾ فاستوفيتموها ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهوان ﴿بما بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ بسبب تكبركم وفسقكم أو بمقابلتهما.