لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير يجب الحزم في ساحة الحرب: كما قلنا سابقاً، فإنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث، فتقول الآية: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (1). من البديهي أن "ضرب الرقاب" كناية عن القتل، وعلى هذا فلا ضرورة لأن يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له، فقد أكّدت الآية عليه. وعلى أية حال، فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال، لأنّ "لقيتم" - من مادة اللقاء - تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد، وفي نفس هذه الآية قرائن عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى، ولفظة الحرب، والشهادة في سبيل الله، والتي وردت في ذيل الآية. وخلاصة القول: إنّ اللقاء يستعمل - أحياناً - بمعنى اللقاء بأي شكل كان، وأحياناً بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني. ومن هنا يتّضح أنّ أُولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول: حيثما وجدتم كافراً فاقتلوه، لم يريدوا إلاّ الإساءة إلى الإسلام، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة، وإلاّ فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال. من البديهي أنّ الإنسان إذا واجه عدواً شرساً في ميدان القتال، ولم يقابله بحزم ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حرّ سيفه ليهلكه، فإنّه هو الذي سيهلك، وهذا القانون منطقي تماماً. ثمّ تضيف الآية: (حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق). "أثخنتموهم" من مادة ثخن، بمعنى الغلظة والصلابة، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة، والسيطرة الكاملة على العدو. وبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين فسّروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو وشدّته، إلاّ أنّ هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي، كما قلنا، ولكن لمّا كان دفع خطر العدو غير ممكن أحياناً إلاّ بكثرة القتل فيه، فيمكن أن تكون مسألة القتل أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف، لا أنّها معناها الأصلي (2). وعلى كلّ حال، فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليماً عسكرياً دقيقاً، وهو أنّه يجب أن لا يُقدَم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سبباً في تزلزل وضع المسلمين في الحرب، وسيعوق المسلمين الإهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي. وعبارة (فشدّوا الوثاق) وبملاحظة أنّ الوثاق هو الحبل، أو كلّ ما يربط به، يشير إلى إتقان العمل في شدّ وثاق الأسرى، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها، ثمّ يوجّه ضربةً إلى الإسلام والمسلمين. وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب، فتقول: (فإمّا منا بعد وإمّا فداء) وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب، بل إنّ ولي أمر المسلمين - طبقاً للمصلحة التي يراها - يطلق سراحهم مقابل عوض أحياناً، وبلا عوض أحياناً أخرى، وهذا العوض - في الحقيقة - نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو. طبعاً يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو استعباد الأسرى، إلاّ أنّه ليس أمراً واجباً، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط. يقول فقيهنا المعروف "الفاضل المقداد" في "كنز العرفان": إنّ ما روي عن مذهب أهل البيت (ع) أنّ الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإنّ إمام المسلمين مخيّر بين ثلاث: إمّا إطلاقه دون شرط، أو تحريره مقابل أخذ الفدية، أو جعله عبداً، ولا يجوز قتله بأي وجه. ويقول في موضع آخر من كلامه: إنّ مسألة الرق استفيدت من الروايات، لا من متن الآية (3). وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضاً (4). وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات. ثمّ تضيف الآية بعد ذلك: (حتى تضع الحرب أوزارها) (5) فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزاً عن مواجهتكم، وعندها سيخمد لهيب الحرب. "الأوزار" جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويطلق أحياناً على المعاصي، لأنّها تثقل كاهل صاحبها. والطريف أنّ هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية، إذ تقول: (حتى تضع الحرب أوزارها) وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة على عاتق المقاتلين، والتي يواجهونها، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة. لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟ سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة: فالبعض - كابن عباس - قال: حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة، وحتى يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره. وقال البعض الآخر: إنّ الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر المسلمون على الدجال، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدجال" (6). البحث حول "الدجّال" بحث واسع، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد والحق والعدالة، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة، وعلى هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجّالون على وجه الأرض. إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر: أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبي (ص) حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. والآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر، والظلم والفساد، وهذا النوع مستمر حتى زمن اتساع حكومة العدل العالمية، وظهورها على الأرض جميعاً على يد المهدي (عج). ثمّ تضيف الآية: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم) (7) بالصواعق السماوية، والزلازل، والعواصف، والإبتلاءات الأُخرى، لكن باب الإختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة: (ولكن ليبلو بعضكم ببعض). هذه المسألة هي فلسفة الحرب، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، وبذلك ستتفتح براعم الإستعدادات، وتحيا قوّة الإستقامة والرجولة، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا، وهو الإبتلاء وتنمية قوّة الإيمان والقيم الإنسانية الأُخرى. إذا كان المؤمنون يتقوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة، وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه بالقوى الغيبية، ويدمّرهم بالطرق الإعجازية، فإنّ المجتمع سيكون خاملاً ضعيفاً عاجزاً، ليس له من الإسلام والإيمان إلاّ اسمه. وخلاصة القول: إنّ الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه، بل نحن الذين نتربّى في ميدان جهاد الأعداء، ونحن الذين نحتاج إلى هذا الجهاد المقدّس. وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأُخرى بصيغ أخرى، فنقرأ في الآية (142) من سورة آل عمران: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). وجاء في الآية التي سبقتها: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي، فقالت: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم). فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى، بل كلها محفوظة عند الله سبحانه، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا، وكلّ نداء (لا إله إلاّ الله) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء، وكلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي الله هي من بركات تضحياتهم، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة والعبودية، وعزّة المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات. هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء. ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في القتال ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأضيف المصدر الدال عليه إلى المفعول ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ أكثرتم قتلهم ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ ما يوثق به أي فأسروهم وأحكموا وثاقهم ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ﴾ أي تمنون عليهم بإطلاقهم بغير عوض منا بعد الأسر ﴿وَإِمَّا فِدَاء﴾ تفادوهم بعوض ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ﴾ أي أهلها ﴿أَوْزَارَهَا﴾ أثقالها من السلاح والكراع بأن يسلم الكفار أو يسالموا أو آثامها أي حتى يصفوا شركهم ﴿ذَلِكَ﴾ أي الأمر ذلك ﴿وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ بإهلاكهم بلا قتال ﴿وَلَكِن﴾ أمركم به ﴿لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ ليختبر المؤمنين بجهاد الكافرين فيظهر المطيع والعاصي ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا﴾ وقرىء قتلوا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ لن يضيعها.